ـ[أبو القاسم المقدسي]ــــــــ[09 - 02 - 07, 10:25 م]ـ
ولتلخيص ما سبق وتحرير القول فيه .. يقال:
للعقل حدود .. لا يجوز أن يخرج عنها بحال .. فإن التزمها فذاك من حفظ حدود الله .. وإلا كان الاهتداء بذياك الخروج من أمحل المحال
ومن أعظم ما يصون العقل عن الخروج عن العقال أن يدرك أن له حدودا ..
هذا الأصل الأول
ويشهد له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يأتي الشيطانُ أحدَكم فيقول من خلق كذا وكذا حتى يقول له من خلق ربَّك؟ فإذا بلغ ذلك فليستعذ بالله ولينته "
ثم عليه أن يعرف معالم هذه الحدود .. بإدراك عجزه .. عن استيعاب كنه المحسوسات ..
فيعلم أن تعذّره عن خوض غمار المغيّبات ونحوها من باب أولى ..
وهذا الأصل الثاني ..
ثم يتذكّر أن عدم فهم الشيء أو إدراكه فضلا عن الإحاطة به ..
لايعني عدمَه .. "ولكنّ أكثرهم لا يعلمون"
ويدل عليه التجربة والبرهان النظري في المحسوسات كذلك
وهذا الأصل الثالث ..
ثم من احترام العقل لذاته ألا يأخذ نصا ويغفل عن آخر .. فهذا التحكم ضرب من الغباء المنافي للعقل
مثال تطبيقي:-
قال تعالى "وهو معكم أينما كنتم" .. وفقا للأخذ بالظاهر ..
فهل المعنى يشهد لأهل الحلول!؟
لبيان مكانة العقل وسموه وحدوده ودنوه في ذات الوقت .. نتدارس النظر العقلي في التعامل مع هذه الآية
-هل ورد في القرآن آية غير هذه تتعلق بالرب سبحانه ومعيته ونحوها؟
الجواب: نعم .. قد علمنا أن الله تعالى وصف نفسه بالعلو دون قيد ..
فقال "الرحمن على العرش استوى" .. وقال"يخافون ربهم من فوقهم" .. وغير ذلك
-وعلمنا أن صفة مخالطة الله لنا صفة نقص .. لا من حيث كون المخلوقين يصح أن يوصفوا بها
بل لأنها تنفي عنه صفة العلو المطلق .. ويلزم منها تسوية المخلوقين بخلقه"تالله إن كنا في ضلال مبين * إذ نسويكم برب العالمين " ..
بخلاف صفة العين مثلا .. فإن نسبتها للرب لا يعني مساواته بالمخلوقين .. لأن الصفة بحسب نسبتها إلى المنسوب إليه ..
فيجوز عقلا أن يقال: عين الله .. صفة تليق بجلاله وكماله .. وليست كأعيننا .. وكل ما خطر ببالك فالله تعالى بخلاف ذلك وفوق ذلك ..
في حين لايجوز أن يقال: معية الله لنا بمعنى أنه في كل مكان ثم نقيدها بقولنا:على ما يليق بجلاله ..
لأن إثبات وجوده في كل مكان .. يقتضي هدم أمور عقلية كثيرة جدا ..
منها نفي وجود المخلوقين أصلا ..
وغير ذلك ..
-ثم علمنا من آيات أخرى حينما تكلم الله عن المعية ..
أن السياقات تأتي تارة .. بمعنى معية العلم .. وتارة بمعنى النصرة
فكانت أطراف هذه الآية وما شاكلها منضبطة انضباطا لا يتأتى عنه الوقوع في تحريف معناها
ويكون القول بتأويلها مما دل عليه الوحي الصحيح .. والعقل الصريح
بخلاف ما يسمّونه تأويلا في صفاته الذاتية والفعلية .. فإنه تحريف للمعنى .. ليس عليه من الله فرقان .. ولا من العقل برهان .. سوى العسف والتكلف والتخرصات الكلامية المبنية على أوهام
وإنما جرّ الشيطان ألئك لضفة التنزيه عبر قنطرة التشبيه
لأن حاصل كلامهم عند ورود أي صفة من صفات الرب عز وجل أن يقولوا ..
هذه جارحة مثلا .. وهي صفة مخلوقين .. فنمرّ عليها ولا نمرّها .. حتى نعبر إلى التنزيه .. فرارا من التشبيه الذي يسمونه تجسيما ..
فلو تأملت .. يكون حاصل فعلهم أنهم شبهوا .. ثم عرجوا .. إلى نفي الصفة .. لتوافق مخيّلتهم .. وتنسجم مع مقرراتهم العقلية القاصرة .. الناشئة عن عدم الاعتراف بضعف هذه العقول عن سبر غور ما هو فوق المعقول
فيتحصل من ذلك .. نفي الصفة ..
وإثبات صفة جديدة ..
ومع اختلاف عقولهم .. تجد تضاربهم ..
فيثبت هذا ماشاء .. وينفي ذاك ما شاء ..
وحاصل خوضهم ملخص في قوله تعالى"وأن تقولوا على الله مالا تعلمون"
ـ[أبو القاسم المقدسي]ــــــــ[19 - 02 - 07, 10:31 م]ـ
وقد يؤدي عدم ضبط حدود المساحة المأذون بها شرعا للعقل أن يسيح فيها
إلى الغلو في الإثبات .. إما بالوقوع في التشبيه ..
وإما بحمل بعض الآيات التي تقبل التأويل كالمعية .. بالمقايسة على الصفات الفعلية والذاتية ..
فتأمل مثلا وقوع الإمام الشوكاني في هذا الخطأ الغريب في رسالته القيّمة الموسومة بالتحف في مذاهب السلف
يقول رحمه الله تعالى: (إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون) إلى ما يشبه ذلك ويماثله ويقاربه ويضارعه، فنقول في مثل هذه الآيات: هكذا جاء القران، إن الله سبحانه وتعالى مع هؤلاء، ولا نتكلف تأويل ذلك كما يتكلف غيرنا بأن المراد بهذا الكون وهذه المعية هو كون العلم ومعيته، فإن هذه شعبة من شعب التأويل تخالف مذاهب السلف وتباين ما كان عليه الصحابة والتابعون وتابعوهم. وإذا انتهيت إلى السلامة في مداك فلا تجاوزه،
وهذا الحق ليس به خفاء فدعني من بنيات الطريق
انتهى كلامه
فهو يذهب أن تفسيرك "إن الله معنا" .. وقوله"إن الله مع الذين اتقوا" .. ونظائرها ..
يقال فيها .. إن المعية صفة ثابتة لله من غير تكييف .. فيجري عليها صفات الله الذاتية
وما من شك أن معية الله لا تشبه معية أحد .. كما أن أي شيء ينسب لله لا يشبه ما ينسب لغيره
لكن ليس من التأويل المذموم -لو سميناه تأويلا-أن يقال .. إن المعية هنا .. تعني معيته العلمية .. أو هي بمعنى النصرة ..
لأنه قد علم من نصوص الشريعة القطعية أن الله لا يكون مع المخلوق على معنى الظرفية المكانية .. التي تعني الخلطة .. بل هو بائن عن خلقه سبحانه
فلايكون تأويل المعية بالعلم ونحوه .. من التأويل المذموم لهذا السبب
والله أعلم