رابعًا: أن قول الأخ عيد إن شيخ الإسلام قال قوله الأول جريًا على المشهور ثم نقضه بعد أن حرره = قول فاسد.
وذلك لأمرين:
الأول: أن هذا القول غير مشهور، اللهم إلا في كتب الفلاسفة لا غير، وكون القول مشهورًا في كتب الفلاسفة يُنفّر منه المتكلمين، فكيف بفحل من فحول أهل السنّة؟!
وقد عرفنا من الأقوال الضالة في كتب المتكلمين مئات الأقوال، وبعضها يصدق عليه أنه مشهور، ومع ذلك لم يقل به شيخ الإسلام، بل كان خير كاشف للزيغ في كتبهم سواء المتعلق بالألفاظ أو بالمعاني.
والأمر الثاني: هديّة!
قال الإمام الهمام شيخ الإسلام أبو العباس بن تيمية أعجوبة دهره والدهور بعده:
( ... فالكلام في هذا المقام واسعٌ لا ينضبط هنا، لكن المعلوم من حيث الجملة أن الفلاسفة والمتكلمين من أعظم بني آدم حشوًا وقولاً للباطلِ وتكذيبًا للحقِّ في مسائلهم ودلائلهم لا يكاد - والله أعلم - تخلو لهم مسألة واحدة عن ذلك.
وأذكر أني قلت مرةً لبعض من كان ينتصر لهم من المشغوفين بهم - وأنا إذ ذاك صغير قريب العهد من الاحتلام - كل ما يقوله هؤلاء ففيه باطلٌ؛ إما في الدلائل، وإما في المسائل؛ إما أن يقولوا مسألةً تكون حقًّا لكن يقيمون عليها أدلةً ضعيفةً وإما أن تكون المسألة باطلاً.
فأخذ ذلك المشغوف بهم يعظّم هذا، وذكرَ مسألةَ التوحيد، فقلتُ: التوحيدُ حقٌّ لكن اذكرْ ما شئتَ من أدلتهم التي تعرفها حتى أذكرَ لك ما فيه ... )، وإليك به في مجموع الفتاوي (4/ 27) لتستمتع إن شاء الله.
أقول: يالله! فهذا شيخ الإسلام يعرف من حين كان صغيرًا يناهز الاحتلام أن القول الذي يتفرد به المتكلمون والفلاسفة خطأ كان ما كان، إما في الدليل أو في الدليل والنتيجة.
فكيف يقال إنه قال بقول لا يعرف إلا في كتب الفلاسفة من غير تحرير وهو فحل كبير؟!!
خامسًا: يقول الأخ عيد في آخر أقواله عن مقصده من الموضوع: إنه من الواجب عدم النطق بجملة: (العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية) لأن هذا لفظ الفلاسفة ..
فلا ينبغي النطق به مهما يكن المقصود ..
ويقول الأخ عيد:
هل توافقون على عدم صحة إطلاق هذه الكلمة: (العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية) أم لا توافقون؟
فهذا طريق أقصر للوصول إلى الحق لمن أراده فعلا فلماذا لم يسلكه أحد؟
أقول: وهذه طريقة فاسدة جدًّا في المنع من إطلاق الألفاظ ..
وسوف أسلك هذه الطريق التي أرادها وأجيب على سؤاله فأقول:
فاللفظ إما أن يكون صريحًا في الحق .. أو يكون صريحًا في الباطل .. أو موهم للحق والباطل ..
ونحن نتفق أن هذه الجملة غير صريحة في الباطل ..
وينبغي أن نتفق أنها غير موهمة للحق والباطل ..
لماذا؟؟
لأننا شرحنا قبل ذلك أنه ما من عاقل (بل ونصف عاقل) يمكنه أن يفهم من هذه الجملة ما أراده منها الفلاسفة.
فكيف الحال إذا كان المراد أنكى وأضل؟
فهم يريدون: (نفس العلة الغائية سابقة في الذهن).
وإذا كان العاقل لا يفهم هذا الباطل منها بحال، لم يعد داع للقول بأنها موهمة.
فهي صريحة في الحق إذن والمراد (صورة الغاية) أو (إرادة الغاية) تكون علّة فاعلية للعلة الفاعلية مع وجود القدرة على الفعل وإرادته.
فإرادة الشبع وتصوره حاصل في الذهن لا بد قبل الأكل ..
وهذه الإرادة وهذا التصور هي الحاملة على فعل الأكل فمع وجود القدرة على الأكل وإرادته تكون علة فاعلية له.
سادسًا: كثيرًا ما يستخدم أهل الزيغ والضلال بعض الألفاظ أو المصطلحات الصحيحة وهم يريدون بها معاني باطلة فاسدة ضالة ..
وأحيانًا - أو لعله كثيرًا - يفعلون ذلك للتلبيس على العامة ..
ولا يعني هذا أن نمنع استخدام هذه الألفاظ الصحيحة أو العبارات التي لا يَفهم منها أيُّ عاقل فسادًا من أجل هذا الصنيع من هؤلاء.
قال شيخ الإسلام كما في المجموع (17/ 352):
( ... واسم التوحيد اسم معظم جاءت به الرسل ونزلت به الكتب فإذا جعل تلك المعانى التى نفاها من التوحيد ظن من لم يعرف مخالفة مراده لمراد الرسول صلى الله عليه و سلم أنه يقول بالتوحيد الذي جاءت به الرسل ويسمى طائفته الموحدين كما يفعل ذلك الجهمية و المعتزلة ومن وافقهم على نفي شيء من الصفات و يسمون ذلك توحيدًا، و طائفتَهم الموحدين ويسمون علمهم علم التوحيد.
كما تسمى المعتزلة ومن وافقهم نفي القدر عدلاً ويسمون أنفسهم العدلية وأهل العدل.
ومثل هذه البدع كثيرٌ جدًّا؛ يعبَّر بألفاظ الكتاب والسنة عن معان مخالفة لما أراده الله و رسوله بتلك الألفاظ ولا يكون أصحاب تلك الأقوال تلقوها ابتداء عن الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه و سلم بل عن شُبَه حصلتْ لهم وأئمة لهم وجعلوا التعبير عنها بألفاظ الكتاب والسنة حجةً لهم وعمدة لهم ليظهر بذلك أنهم متابعون للرسول صلى الله عليه و سلم لا مخالفون له ... ).
فالشاهد أن أهل الضلال قد يعبرون بألفاظ الكتاب والسنة على معانٍ باطلة مع أنها في الغاية من الفصاحة والنهاية من البيان والقطع في الدلالة على الحق ..
فكيف بدون ذلك من الألفاظ؟
إذن فالعبرة باللفظ وكونه صريحًا في الدلالة لعى الحق، ثم لا اعتبار بعد ذلك باستخدام المبتدع له على معنى باطل.
وجملتنا ألفاظها من هذا القبيل ..
لأنه ما من عاقل يخطر بباله مراد الفلاسفة ..
فالمقصود:
أن كل من أطلق عبارة (العلة الغائية علة فاعلية للعلة الفاعلية) لا تثريب عليه ..
إلا أن يتبين من نفس كلامه أنه أراد مراد الفلاسفة الذي لا يخطر ببال عاقلٍ ..
وهذه الدقيقة أول من أشار إليها هو الشيخ فيصل بارك الله فيه حين قال مكرّرًا:
(ولو عرف مذهب ابن سينا لعلم أنه هو أصلاً يحتاج لتصريح ودليل قوي لاتهام الناس به لأنه مذهب شنيع يحتاج الرجل لجهد لتصوره فكيف القول به).
وشهادة حق، الشيخ فيصل من أحسن من يمكن أن يستفاد منه في باب الرد على الفلاسفة والمتكلمين ممن يكتب على الشبكة، إن لم يكن أحسنهم مطلقًا في رأيي.
والله المستعان ولا حول ولا قوة إلا به.
¥