من البشر أكمل منه كما تقوله الإسماعيلية والقرامطة والباطنية فليس على هذا دليل أصلا، أن كل من تأخر زمانه من نوع يكون أفضل ذلك النوع فلا هو مطرد ولا منعكس.
بل إبراهيم الخليل قد ثبت بقول النبي صلى الله عليه وسلم " أنه خير البرية " أي بعد النبي، وكذلك قال الربيع بن خيثم: " لا أفضل على نبينا أحدا ولا أفضل على إبراهيم بعد نبينا أحدا وبعده جميع الأنبياء المتبعين لملته مثل موسى وعيسى وغيرهما " وكذلك أنبياء بني إسرائيل كلهم بعد موسى وقد أجمع أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى على أن موسى أفضل من غيره من أنبياء بني إسرائيل إلا ما يتنازعون فيه من المسيح. والقرآن قد شهد في آيتين لأولي العزم فقال في قوله: " وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم" وقال:" شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى" فهؤلاء الخمسة أولوا العزم وهم الذين قد ثبت في أحاديث الشفاعة الصحاح: أنهم يترادون الشفاعة في أهل الموقف بعد آدم فيجب تفضيلهم على بنيهم وفيه تفضيل لمتقدم على متأخر ولمتأخر على متقدم.
وأصل الغلط في هذا الباب: أن تفضيل الأنبياء أو الأولياء أو العلماء أو الأمراء بالتقدم في الزمان أو التأخر أصل باطل فتارة يكون الفضل في متقدم النوع وتارة في متأخر النوع
ولهذا يوجد في أهل النحو والطب والحساب ما يفضل فيه المتقدم كبطليموس وسيبويه وبقراط وتارة بالعكس.
وأما توهمهم أن متأخري كل فن أحذق من متقدميه لأنهم كملوه فهذا منتقض:
أولا: ليس بمطرد فإن كتاب سيبويه في العربية لم يصنف بعده مثله بل وكتاب بطليموس بل نصوص بقراط لم يصنف بعدها أكمل منها.
ثم نقول هذا قد يسلم في الفنون التي تنال بالقياس والرأي والحيلة، أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته: كان تلقيه عنهم أعظم وما يحسن فيه هو من الفضائل الدينية المأخوذة عن الأنبياء، ولهذا كان من يخالف ذلك هو من المبتدعة الخارج عن سنن الأنبياء المعتقد أن له نصيبا من العلوم والأحوال خارجا عن طور الأنبياء فكل من كان بالنبوة وقدرها أعظم كان رسوخه في هذه المسألة أشد وأما الأذواق والكرامات فمنها ما هو باطل والحق منه كان للسلف أكمل وأفضل بلا شك وخرق العادة تارة يكون لحاجة العبد إلى ذلك وقد يكون أفضل منه لا تخرق له تلك العادة فإن خرقها له سبب وله غاية فالكامل قد يرتقي عن ذلك السبب وقد لا يحتاج إلى تلك الغاية المقصودة بها ومع هذا فما للمتأخرين كرامة إلا وللسلف من نوعها ما هو أكمل منها.
وأما قوله: " لهم أجر خمسين منكم لأنكم تجدون على الخير أعوانا ولا يجدون على الخير أعوانا" فهذا صحيح إذا عمل الواحد من المتأخرين مثل عمل عمله بعض المتقدمين كان له أجر خمسين لكن لا يتصور أن بعض المتأخرين يعمل مثل عمل بعض أكابر السابقين كأبي بكر وعمر فإنه ما بقي يبعث نبي مثل محمد يعمل معه مثلما عملوا مع محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما قوله: "أمتي كالغيث لا يدرى أوله خير أم آخره" مع أن فيه لينا فمعناه: في المتأخرين من يشبه المتقدمين ويقاربهم حتى يبقى لقوة المشابهة والمقارنة لا يدري الذي ينظر إليه أهذا خير أم هذا وإن كان أحدهما في نفس الأمر خيرا.
فهذا فيه بشرى للمتأخرين بأن فيهم من يقارب السابقين كما جاء في الحديث الآخر: " خير أمتي أولها وآخرها وبين ذلك ثبج أو عوج وددت أني رأيت إخواني قالوا: أولسنا إخوانك؟ قال: أنتم أصحابي " هو تفضيل للصحابة فإن لهم خصوصية الصحبة التي هي أكمل من مجرد الإخوة وكذلك قوله: " أي الناس أعجب إيمانا " إلى قوله: " قوم يأتون بعدي يؤمنون بالورق المعلق " هو يدل على أن إيمانهم عجب أعجب من إيمان غيرهم ولا يدل على أنهم أفضل، فإن في الحديث أنهم ذكروا الملائكة والأنبياء ومعلوم أن الأنبياء أفضل من هؤلاء الذين يؤمنون بالورق المعلق، ونظيره كون الفقراء يدخلون الجنة قبل الأغنياء فإنه لا يدل على أنهم بعد الدخول يكونون أرفع مرتبة من جميع الأغنياء وإنما سبقوا لسلامتهم من الحساب.
وهذا باب التفضيل بين الأنواع في الأعيان والأعمال والصفات أو بين أشخاص النوع باب عظيم يغلط فيه خلق كثير والله يهدينا سواء الصراط.ا. هـ
نستخلص من هذا التحقيق البديع والتأصيل المنيع:
- أن من قرب من النبي كان أفضل ممن بعُد عنه.
- أن التفضيل بالتقدم زمنا من حيث الجنس لا النوع مطرد أما من حيث النوع فليس بمطرد فتارة يكون الفضل في متقدم النوع وتارة في متأخر النوع.
- أن التفضيل بالتقدم زمنا أو التأخر أصل باطل إذا كان في الفنون التي تنال بالقياس والرأي والحيلة، مع عدم طرده في الأنواع كما تقدم، أما الفضائل المتعلقة باتباع الأنبياء فكل من كان إلى الأنبياء أقرب مع كمال فطرته كان أفضل.
- يلاحظ مما سبق استدلال ابن تيمية بالكتاب والسنن المتواترة وغيرها والآثار والإجماع على ما قرره ورده على ما يتمسك به المخالف من شبه عقلية ونقلية
¥