ولا مناقضة بين قوله تعالى: " نحن قدرنا بينكم الموت "، وبين قوله: " وأنا أكره مساءته "، ولكن إيضاح الحق في هذا يستدعي تحقيق معنى الإرادة والمحبة والكراهة وبيان حقائقها، فإن السابق إلى الأفهام منها أمور تناسب إرادة الخلق ومحبتهم وكراهتهم، وهيهات! فبين صفات الله تعالى وصفات الخلق من البعد ما بين ذاته العزيز، وذاتهم وكما أن ذوات الخلق جوهر وعرض، وذات الله مقدس عنه ولا يناسب ما ليس بجوهر وعرض الجوهر والعرض، فكذا صفاته لا تناسب صفات الخلق، وهذه الحقائق داخلة في علم المكاشفة، ووراء سر القدر الذي منع من إفشائه، فلنقصر عن ذكره ولنقتصر على ما نبهنا عليه من الفرق بين الإقدام على النكاح والإحجام عنه ".
ففي هذا الكلام إثبات جملة من الحقائق – والذي يعرفها يعرف انها متلازمة بحيث من أثبت واحدة جرته إلى الأخريات -:
1 - إثبات قياس الأولى في معرفة قبح الأفعال وحسنها أي: تستحق العقاب أو الثواب، وهذه مسألة التحسين والتقبيح العقليين عينها، اللتي نفاها الغزالي - كسائر الأشعرية - في المستصفى والاقتصاد في الاعتقاد.
2 - أن الله تعالى يخلق لحكمة، وحكمة الله تعالى أزلية.
3 - إثبات صفة المحبة لله تبارك وتعالى.
4 - التفريق بينها وبين الإرادة.
5 - بيان أن الأفعال مختلفة بالنسبة لإرادة الله تعالى.
6 - إثبات القاعدة السنية العظيمة: الكلام في الصفات فرع عن الكلام في الذات.
7 - أن هذه الحقائق السنية الناصعة التي يهنأ السُّنِّيُّ بمعرفتها بلا كلل أو طول تفكير، داخلة في علم المكاشفة، بل وراء سر القدر الذي منع من إفشاءه!، ثم هي عصية على الجماهير الذين يكتب لهم الغزالي، وأنتم تعرفون من هم!.
فرحم الله الغزالي وعفا عنه!.
ورحم شيخ الإسلام الذي قال فيه: " فَإِنَّ أَبَا حَامِدٍ كَثِيرًا مَا يُحِيلُ فِي كُتُبِهِ عَلَى ذَلِكَ النُّورِ الْإِلَهِيِّ، وَعَلَى مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يُوجَدُ لِلصُّوفِيَّةِ وَالْعِبَادِ بِرِيَاضَتِهِمْ وَدِيَانَتِهِمْ مِنْ إدْرَاكِ الْحَقَائِقِ وَكَشْفِهَا لَهُمْ حَتَّى يَزِنُوا بِذَلِكَ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ.
وَسَبَبُ ذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ قَدْ عَلِمَ بِذَكَائِهِ وَصِدْقِ طَلَبِهِ مَا فِي طَرِيقِ الْمُتَكَلِّمِينَ والمتفلسفة مِنْ الِاضْطِرَابِ، وَآتَاهُ اللَّهُ إيمَانًا مُجْمَلًا - كَمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ - وَصَارَ يَتَشَوَّفُ إلَى تَفْصِيلِ الْجُمْلَةِ، فَيَجِدُ فِي كَلَامِ الْمَشَايِخِ وَالصُّوفِيَّةِ مَا هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْحَقِّ؛ وَأَوْلَى بِالتَّحْقِيقِ مِنْ كَلَامِ الْفَلَاسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين.
وَالْأَمْرُ كَمَا وَجَدَهُ لَكِنْ لَمْ يَبْلُغْهُ مِنْ الْمِيرَاثِ النَّبَوِيِّ الَّذِي عِنْدَ خَاصَّةِ الْأُمَّةِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَحْوَالِ: وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ حَتَّى نَالُوا مِنْ الْمُكَاشَفَاتِ الْعِلْمِيَّةِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْعِبَادِيَّةِ مَا لَمْ يَنَلْهُ أُولَئِكَ، فَصَارَ يَعْتَقِدُ أَنَّ تَفْصِيلَ تِلْكَ الْجُمْلَةِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الطَّرِيقِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ طَرِيقٌ غَيْرُهَا لِانْسِدَادِ الطَّرِيقَةِ الْخَاصَّةِ السُّنِّيَّةِ النَّبَوِيَّةِ عَنْهُ بِمَا كَانَ عِنْدَهُ مِنْ قِلَّةِ الْعِلْمِ بِهَا وَمِنْ الشُّبُهَاتِ الَّتِي تَقَلَّدَهَا عَنْ الْمُتَفَلْسِفَةِ وَالْمُتَكَلِّمِين حَتَّى حَالُوا بِهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ ".
مجموع الفتاوى (4/ 64).