حاجة الإنسان إلى الدين والعقيدة - أ. د. عمر بن عبد العزيز قُرَيشي
ـ[حاتم الحاجري]ــــــــ[17 - 06 - 10, 12:39 ص]ـ
دعوى استغناء الإنسان عن العقيدة دعوى باطلة يُكذبها الواقع، ويُبطلها تاريخ البشرية الطويل، إذ واقع البشرية شاهد على أن الإنسان حيثما كان وفي أي ظروف وُجِد، وعلى اختلاف أحواله وتباين ظروفه لا يخلو من عقيدة أبداً.
وسواء كانت العقيدة حقاً أو باطلاً، صحيحةً أو فاسدةً، حتى الذين يَدَّعون اليوم أن العِلم قد أغنى عن العقيدة وعن التدين، وأن الإنسان في عصر الذَرة وغزو الفضاء لم يُصبح في حاجة إلى الإيمان بالله تعالى، وبالغوا في الكُفر والإنكار، وقالوا: إن الإنسان في الظروف الصعبة التي كان يعيشها والمخاوف التي تنتابه من كل ما حوله من مظاهر الكون إذ هو يخاف المرض ويخاف الفقر ويخاف الرعد والبرق والفيضان والسيول والعواصف والزلازل وحتى الحيوانات، اضطر لأجل ذلك إلى الإيمان بقوة ذات قُدرة لا تعجز، وسلطان لا يُغلَب أو يُقهر، سَمَّاها إلهاً يفزع إليه عند الشدائد ويتقرب إليه بالعبادات ليدفع عنه الشرور ويقيه من المهالك. لهذا قالوا: إن الإنسان هو الذي خلق الإله وليس الإله هو الذي خلق الإنسان. وهو قولٌ مُضحِك، وجهلٌ فاضح، وكُفرٌ صريح، وكذبٌ ممقوت، ومُغالطةٌ مكشوفة، وسُخف عقول لا حد له.
إن الإنسان دائماً في حاجة إلى الإيمان والتَّدَيُّن والعقيدة، وإن الدين ضرورة من ضرورات حياته، وحاجة من حاجات نفسه، فلا غِنى له عن الإيمان بربه وعن عِبادته بحال من الأحوال، ومِن هُنا لم تخل أُمة وُجِدَت على وجه الأرض - ومُنذ عهد الإنسان بالحياة – من عقيدة ودين، ومِصداق ذلك قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} [سورة فاطر – الآية 24]. والمُراد بالنذير، نبي أو رسول أو عالِم وارث لعِلم النُّبُوَة، يُنذر تِلك الأُمة عاقبة الكُفر بالله وبكتبه ورُسُله وشرائعه، ويُحذرها من نتائج الشرك بربها والمعصية له ولرُسُله وما يتبع ذلك من انحراف السلوك بالظلم والشر والفساد.
ولقد قال "بازماك" المؤرخ الإغريقي، مُقرراً هذه الحقيقة التي ذكرها القُرآن الكريم: لقد وُجِدَت في التاريخ مُدُن بِلا حُصون ولا قُصور وبِلا سُدود ولا قناطر، ولكن لم تُوجَد مُدُن بلا معابد.
ومِن هُنا تتجلى ضرورة الدين للإنسان، لأنه مُنذ وُجِد على هذه الأرض وهو في حاجة ماسَّة ومُلِحَّة أيضاً إلى قوانين ضابطة تُعَدِّل مِن غرائزه وتُنَظم سُلوكه وتُحدد اتجاهاته وتُهيئه للكمال الذي خُلِقَ مُستعداً له في كِلتا حياتيه، الأولى هذه يقضيها قصيرة على هذه الأرض، والثانية التي تتم له في عالمَ غير هذا العالَم الأرضي الهابط، وإنما في عالمَ الطُهروالصفاء في الملكوت الأعلى، كما أخبر بذلك ربه بواسطة كُتبه التي أنزلها، وأنبيائه الذين أرسلهم.
ولا يستطيع أحد أن يضع له هذه القوانين غير الله الذي خلقه وعَلَّمَه وكَمَّلَه. والإنسان بفطرته يشعر بضعفه وحاجته إلى ربه في إعانته وتوفيقه ورعايته وحفظه، ولذا فهو يطلب التَعَرُّف إليه بما يجب من أنواع القرب وضروب الطاعات والعبادات، والإنسان بمواهبه وأفكاره ومشاعره وأحاسيسه يطلب دائماً المزيد من السُمُّو والرِفعة في ذلك حتى لا يريد أن يقف عند حد أبداً. فهو إذاً في أحواله هذه التي ذكرها مُفتقر إلى تشريع ديني إلهي يلائم فطرته ويُنَظِّم له علاقته فيما بينه وبين أفراده الذين لا يستغني عن التعاون معهم لتوفير أسباب حياته وبقائها صالحة في هذا الوجود من مطعم ومشرب وملبس ومسكن ومركَب، ويمده بعلوم ومعارف عن ربه ولقائه وعن كيفية عبادته ودعائه وذكره والتقرب إليه بفعل طاعته وإتيان محابه، وترك مكارهه واجتناب مساخطه، كما يمده بفيض علمي عن الحياة والكون يعرف به حقيقة الوجود وعِلة الكون والحياة، وأسباب السُّمُو والكمال والهبوط والنُقصان، والتي تطرأ عليه في حياته الأولى والآخرة.
وبناءً على ما تقدم فحاجة الإنسان إلى دين إلهي صحيح أشد من حاجته إلى العناصر الأولية لحفظ حياته من ماء وغذاء وهواء، ولا يُنكر هذا أو يُجادل فيه إلا مُعاند مُكابِر لا يؤبه لعناده ولا يُلتفت إلى جِداله.
كتبه: فضيلة الشيخ أ. د. عمر بن عبد العزيز قُرَشي
الأستاذ بكلية الدعوة – جامعة الأزهر
من كتاب: حقيقة الإيمان