فأهل السُنَّة مستمسكون بالجماعة، مُعْرِِضُون عن مواضع التفرق والاختلاف، ملتزمون بجمل الكتاب والسُنَّة والإجماع، بعيدون عن مواطن المتشابهات التي تُفَرِّق الجَمْع وتُشَتِّت الشمل؛ لأن الجماعة عندهم هي مناط النجاة في الدنيا والآخرة.
وهذا يشهد لصدقه واقع أهل البِدع والأهواء المجتمعين على الأصول البدعية؛ فإن فِرَقهم الكبرى انشعبت إلى ما لا يُحصى عَدَّاً مِن الفِرَق المتشاكسة المتعاكسة، وهذا ظاهر في الخوارج والروافض – مثلاً – فكل من هاتين الطائفتين افترقت إلى فرق كثيرة، بعد أن فارقوا الحق وتركوا الاجتماع عليه.
قال شيخ الإسلام: "والبدعة مقرونة بالفُرقة، كما أن السُنَّة مقرونة بالجماعة، فيُقال: أهل السُنَّة والجماعة، كما يُقال: أهل البدعة والفُرقة". (الاستقامة ج1، ص42).
وقال الشاطبي رحمه الله: "وقال جماعة من العلماء: أصول البدع أربعة، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا، وهم: الخوارج، والروافض، والقدرية، والمرجئة". (الاعتصام ج2، ص220).
"وقد ذكر بعض المصنفين أن الروافض انقسموا إلى ثلاث وسبعين فرقة، وأوصلهم بعضهم إلى ثلاثمائة". (الملل والنحل للشهرستاني ج1، ص166).
ثانياً: مراعاة ضوابط الخلاف
كما أمر الله تعالى بالاجتماع والاعتصام فقد حذر ونهى عن الافتراق والابتداع، قال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [سورة الشورى – الآية 13]، وقال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [سورة الأنعام – الآية 153].
فحين يقع الخلاف العِلمي بين أهل السُنَّة يقع منضبطاً بضوابطه التي من أهمها الحرص على الوحدة والائتلاف، وصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد كان العلماء من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إذا تنازعوا في الأمر اتبعوا أمر الله في قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا} [سورة النساء – الآية 59]، وكانوا يتناظرون في المسألة مناظرة مشاورة ومناصحة، وربما اختلف قولهم في المسألة العِلمية والعَملية، مع بقاء الألفة والعِصمة وأخوة الدين". (مجموع الفتاوى ج24، 132).
وهذا الأمر مُشاهَد ملموس في الخلاف الذي ينشأ بين أهل السُنَّة أنفسهم، وبين أهل السُنَّة وأهل البِدع، فأما ما يكون بينهم وبين بعضهم فكثير جداً، فقد وقع الخلاف بين الصحابة أنفسهم حول بعض مسائل العقيدة، ولكن لم تكن هذه المسائل من الأمهات والكليات في هذا الباب.
ومن الأمثلة على ذلك:
- اختلافهم في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه ليلة المعراج، هل وقعت أم لا؟ (مجموع الفتاوى ج3، ص386).
- ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم في أنه هل يكون للبدن في القبر عذاب أو نعيم دون الروح أم لا؟ (مجموع الفتاوى ج4، ص282، 283).
- ومِن ذلك أيضاً: اختلافهم فيما يُوزَن يوم القيامة: هل هو العمل، أم صحائف العمل، ام العامِل نفسه أي صاحب العمل؟ (انظر شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العِز ج2، ص608 - 613).
- ومِن ذلك: اختلافهم في الفروع والأحكام الفقهية العملية وهو كثير مشهور.
وأما مواقفهم مع غيرهم ممن خالف في الأصول دون الفروع، فيجسده موقف ابن عباس مع الخوارج ورحمته بهم ونقاشه معهم، الذي كان سبباً في رجوع ألفين منهم إلى ساحة السُنَّة، وإلى طريق الجماعة.
وكذا إمام أهل السُنَّة الإمام أحمد في موقفه مِن مُخالفيه، وعبد العزيز الكناني، ولقد حذا حذوهم شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمهم الله جميعاً.
وهُم مع هذا كانوا أحرص الناس على جمع الكلمة ووحدة الصف وإصلاح ذات البَيْن.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "تعلمون أن من القواعد العظيمة التي هي من جِماع الدين: تأليف القلوب، واجتماع الكلمة، وصلاح ذات البَيْن، فإن الله تعالى يقول: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [سورة الأنفال – الآية 1] ". (مجموع الفتاوى ج28، ص50).
ثم إنه من لوازم الاجتماع والدعوة إليه النهي عن الفرقة وأسبابها، قال الإمام القرطبي: "وقال ابن عباس رضي الله عنهما لسماك الحنفي: يا حنفي، الجماعة الجماعة، فإنما هلكت الأمم السابقة لتفرقها، أما سمعت الله عز وجل يقول: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [سورة آل عِمران – الآية 103] ". (تفسير القرطبي ج4، ص164).
قال ابن وهب: "سمعت مالكاً يقول: ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف مِن أهل الأهواء، مِن هذه الآية: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [سورة آل عِمران – الآية 106]، قال مالك: فأي كلام أبين مِن هذا؟ فرأيته يتأولها لأهل الأهواء، ورواه ابن القاسم وزاد: قال مالِك: إنما هذه الآية لأهل القِبلة". (الاعتصام للشاطبي ج2، ص290).
كتبه: فضيلة الشيخ د. محمد يسري
كلية الشريعة جامعة الأزهر، ونائب رئيس الجامعة الأمريكية المفتوحة.
مِن كتاب: طريق الهداية، مباديء ومقدمات علم التوحيد عند أهل السُنَّة والجماعة.