تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وقد غفل الكثير من المسلمين عن فقه هذه العبادات وتحقيقها، وكان لاشتغالهم بالرسوم والمظاهر، وتأثرهم بالنزعة الإرجائية الكلامية أبلغ الأثر في إهمال أعمال القلوب وعبوديتها، فما أكثر من استُعبد قلبه لغير الله - تعالى - من الشهوات والملذات، فطائفة أشربت حبّ المال، وطائفة صار همها وشغلها المنصب والوظيفة والرياسة، وطائفة ثالثة تعلقت قلوبها بالنساء، وطائفة أخرى صار مقصودها سفاسف الأمور من مطعوم أو ملبوس أو مركوب، أو (كرة) أو عبث ولهو، أو (فن) ....

فعبد المال قد صار الدرهم والدينار هجيّراه؛ فهمّه ومقصوده المال، فلا يصبح ولا يمسي إلا وهمه المال، فمن أجله يوالي ويعادي، فإن أعطي رضي، وإن منع سخط.

لقد تحدث علماء السلف - رحمهم الله - عن عبودية القلب، فكان حديثاً عن علم وبصيرة وذوق وتحقيق.

ومن ذلك ما سطّره يراع شيخ الإسلام ابن تيمية إذ يقول: (إذا كان القلب - الذي هو ملك الجسم - رقيقاً مستعبداً، متيماً لغير الله، فهذا هو الذل والأسْر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب.

وعبودية القلب وأسره هي التي يترتب عليها الثواب والعقاب .. فمن استُعبد قلبه فصار عبداً لغير الله، فهذا يضره ذلك، ولو كان في الظاهر ملك الناس.

فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس) أخرجه الشيخان.

وهذا لعمر الله إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة: امرأة، أو صبي؛ فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب) (22).

ويقرر ابن القيم هذه العبودية بقوله: (الإنابة هي عكوف القلب على الله - عز وجل -، كاعتكاف البدن في المسجد لا يفارقه، وحقيقة ذلك عكوف القلب على محبته وذكره بالإجلال والتعظيم، وعكوف الجوارح على طاعته بالإخلاص له والمتابعة لرسوله، ومن لم يعكف قلبه على الله وحده عكف على التماثيل المتنوعة، كما قال إمام الحنفاء لقومه: ((مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)) [الأنبياء: 52] فاقتسم هو وقومه حقيقة العكوف، فكان حظ قومه العكوف على التماثيل، وكان حظه العكوف على الربّ الجليل. والتماثيل جمع تمثال، وهي الصور الممثلة، فتعلق القلب بغير الله واشتغاله به والركون إليه عكوف منه على التماثيل التي قامت بقلبه، وهو نظير العكوف على تماثيل الأصنام، ولهذا كان شرك عباد الأصنام بالعكوف بقلوبهم وهمهم وإراداتهم على تماثيلهم، فإذا كان في القلب تماثيل قد ملكته واستعبدته بحيث يكون عاكفاً عليها فهو نظير عكوف الأصنام عليها، ولهذا سماه النبي -صلى الله عليه وسلم- عبداً لها، ودعا عليه بالتعس والنكس، فقال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم. تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش (23)) (24).

وبسط ابن القيم الحديث عن أرباب عبودية القلب وأحوالهم فكان مما قال: (وجملة أمرهم أنهم قوم قد امتلأت قلوبهم من معرفة الله، وغمرت بمحبته وخشيته وإجلاله ومراقبته، فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق فيها عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحبّ، قد أنساهم حبّه ذكر غيره، وأوحشهم أنسهم به ممن سواه، فشغلوا بحبه عن حبّ من سواه، وبذكره عن ذكر من سواه، وبخوفه ورجائه والرغبة إليه والرهبة منه، والتوكل عليه والإنابة إليه، والسكون إليه والتذلل والانكسار بين يديه عن تعلق ذلك منهم بغيره، فإذا وضع أحدهم جنبه على مضجعه صعدت أنفاسه إلى إلهه ومولاه، واجتمع همّه عليه متذكراً صفاته العلى وأسمائه الحسنى، مشاهداً له في أسمائه وصفاته، قد تجلت على قلبه أنوارها فانصبغ قلبه بمعرفته ومحبته، فبات جسمه في فراشه يتجافى عن مضجعه، وقلبه قد أوى إلى مولاه وحبيبه فآواه إليه، وأسجده بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً من كل جهة من جهاته. فيا لها سجدة ما أشرفها من سجدة، لا يرفع رأسه منها إلى يوم اللقاء، وقيل لبعض العارفين: أيسجد القلب بين يدي ربه؟ قال: إي والله، بسجدة لا يرفع رأسه منها إلى يوم القيامة) (25).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير