ويشير ابن رجب إلى عبودية القلب قائلاً: (إن تحقق القلب بمعنى لا إله إلا الله وصدقه فيها، وإخلاصه بها يقتضي أن يرسخ فيه تألّه الله وحده، إجلالاً، وهيبة، ومخافة، ومحبة، ورجاء، وتعظيماً، وتوكلاً، ويمتلئ بذلك، وينتفي عنه تأله ما سواه من المخلوقين، ومتى كان كذلك، لم يبق فيه محبة، ولا إرادة، ولا طلب لغير ما يريده الله ويحبه ويطلبه، وينتفي بذلك من القلب جميع أهواء النفوس وإراداتها، ووساوس الشيطان، فمن أحبّ شيئاً وأطاعة، وأحبّ عليه وأبغض عليه فهو إلهه، فمن كان لا يحب ولا يبغض إلا لله، ولا يوالي ولا يعادي إلا له، فالله إلهه حقاً، ومن أحبّ لهواه، وأبغض لهواه، ووالى عليه، وعادى عليه، فإلهه هواه) (26).
ونختم هذه المسألة الجليلة بمثال عملي سطّره الصحابي الجليل أبو عبد الرحمن عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - حيث باع حماراً له، فقيل له: لو أمسكته! فقال: لقد كان لنا موافقاً، ولكنه أذهب بشعبة من قلبي، فكرهت أن أشغل قلبي بشيء (27).
فما أتم عبادة ابن عمر لله - تعالى -، وما أكمل توحيده وعكوف قلبه على الله - عز وجل - فهو لما رأى التفاتاً تجاه هذا الحمار، بادر إلى بيعه والتخلص منه مع كونه موافقاً له .. فشتان بين هذا المقام الرفيع وبين من تفرّق قلبه في أودية الدنيا وملذاتها، فصارت جل شعب قلبه متعلقة بمال، أو امرأة، أو منصب ووظيفة، والله المستعان.
ومن أجلِّ قواعد هذا الموضوع:
أن عبودية الله - تعالى - ملائمة لحقيقة الإنسان وجِبِلّته، ومستوعبة لمقاصده وأعماله.
وقد ورد في الحديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (أصدق الأسماء حارث وهمّام) (28) فكل إنسان همام أي مريد ومفكر، وكل همام حارث أي صاحب عمل وكسب وسعي، وعبودية الله - تعالى - مناسبة للفطرة فتتسق وتتفق مع طبيعة الإنسان وحقيقته، وتستوعب كل نشاطه وحركته هماً وحرثاً (29).
وقد أكّد ابن تيمية هذا المعنى في غير موضع؛ فكان مما قاله: (العبد مجبول على أن يقصد شيئاً ويريده، ويستعين بشيء ويعتمد عليه في تحصيل مراده؛ وهذا أمر حتم لازم ضروري في حق كل إنسان).
فإذا تدبر الإنسان حال نفسه وحال جميع الناس، وجدهم لا ينفكون عن هذين الأمرين: لا بد للنفس من شيء تطمئن إليه وتنتهي إليه محبتها، وهو إلهها، ولا بد لها من شيء تثق به وتعتمد عليه في نيل مطلوبها هو مستعانها، سواءاً كان ذلك هو الله أو غيره، وإذا كان فقد يكون عاماً وهو الكفر، كمن عبد غير الله مطلقاً، وسأل غير الله مطلقاً .. وقد يكون خاصاً في المسلمين مثل من غلب عليه حبّ المال، أو حبّ شخص، أو حب الرياسة حتى صار عبد ذلك (30).
ونختم هذه المقالة بمسألة جليلة وهي:
أن فقه أسماء الله - تعالى - وصفاته، والتعبّد لله - عز وجل - بها من أعظم أسباب تحقيق عبودية الله - تعالى.
يقول العز بن عبد السلام: (فهم معاني أسماء الله - تعالى - وسيلة إلى معاملته بثمراتها من الخوف والرجاء والمهابة والمحبة والتوكل وغير ذلك من ثمرات معرفة الصفات) (31).
وعُنِيَ ابن القيم - رحمه الله - بتقرير هذه المسألة في أكثر من كتاب، ومن ذلك قوله: (لكل صفة عبودية خاصةٌ هي من موجباتها ومقتضياتها، أعني: من موجبات العلم بها والتحقيق بمعرفتها؛ وهذا مُطّرِدٌ في جميع أنواع العبودية التي على القلب والجوارح؛ فعلم العبد بتفرد الربّ بالضر والنفع والعطاء والمنع، والخلق والرزق والإحياء والإماتة يثمر له عبودية التوكل عليه باطناً، ولوازم التوكل وثمراته ظاهراً، وعلمه بسمعه - تعالى - وبصره وعلمه أنه لا يخفى عليه مثقال ذرة، وأنه يعلم السرّ ويعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور يثمر له حفظ لسانه وجوارحه وخطرات قلبه عن كل ما لا يرضي الله .. ومعرفته بجلال الله وعظمته وعزه تثمر له الخضوع والاستكانة والمحبة ... فرجعت العبودية كلها إلى مقتضى الأسماء والصفات) (32).
ويؤكد الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - هذه المسألة بقوله: (وأما توحيد الصفات، فلا يستقيم توحيد الربوبية ولا توحيد الألوهية إلا بالإقرار بالصفات) (33).
¥