3 - مراعاة أحوال المخاطبين:
فمن المعلوم أن لكل مقام مقالاً، وربما صح مقصد المكلف، وحسنت نيته، لكن قصر فهمه عن إدراك المقصود من النص، فساء إدراكه والتبس عليه الأمر، ولقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- ممن جمعوا بين حسن القصد مع حسن الفهم، وقد يحرم البعض أحد الأمرين أو كلاهما.
يقول شيخ الإسلام: "إن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد، وقد تجب في حال دون حال، وعلى قوم دون قوم، وقد تكون مستحبة غير واجبة، وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء ..
وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها، كما قال ابن عباس لما سأله أحدهم عن قوله تعالى: ((اللَّهُ الَذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ ... )) الآية. فقال: ما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها لكفرت، وكفرك تكذيبك بها". (13)
ويوضح الشاطبي هذا الأمر فيقول:
"ومن هذا يعلم أنه ليس كل ما يعلم مما هو حق يطلب نشره، وإن كان من علم الشريعة ومما يفيد علماً بالأحكام، بل ذلك ينقسم، فمنه ما هو مطلوب النشر، وهو غالب علم الشريعة، ومنه ما لا يطلب نشره بإطلاق، أو لا يطلب نشره بالنسبة إلى حال أو وقت أو شخص". (14)
ثم يقول: "وضابطه أنك تعرض مسألتك على الشريعة، فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على العقول (*) فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول على العموم وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم، وإن لم يكن لمسألتك هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية". (15)
وقد طبق الصحابة -رضي الله عنهم- هذا الضابط، فكانوا في دعوتهم وتبليغهم مراعين لأفهام الناس وأحوالهم، فها هو عبادة بن الصامت -رضي الله عنه - وهو يعالج مرض الموت - يقول: ما من حديث سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لكم فيه من الخير إلا حدثتكموه إلا حديثاً واحداً، وسوف أحدثكموه اليوم وقد أحيط بنفسي، سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله حرَّم الله عليه النار" رواه مسلم.
يقول القاضي عياض في شرح هذا الحديث: "فيه دليل على أنه كتم ما خشي الضرر فيه والفتنة مما لا يحتمله عقل كل واحد، وذلك فيما ليس تحته عمل ولا فيه حد من حدود الشريعة، ومثل هذا عن الصحابة -رضي الله عنهم- كثير في ترك الحديث بما ليس تحته عمل، ولا تدعو إليه ضرورة، أو لا تحمله عقول العامة، أو خشيت مضرته على قائله أو سامعه لا سيما ما يتعلق بأخبار المنافقين والإمارة وتعيين قوم وصفوا بأوصاف غير مستحسنة وذم آخرين ولعنهم، والله أعلم". (16)
وجاء في حديث معاذ قوله -صلى الله عليه وسلم- "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا حرم عليه النار. فقال معاذ: يا رسول الله أفلا أخبر الناس فيستبشروا؟ قال: إذاً يتكلوا" فأخبر بها معاذ عند موته تأثماً.
قال ابن الصلاح: "منعه من التبشير العام خوفاً من أن يسمع ذلك من لا خبرة له ولا علم فيغتر ويتكل، وأخبر به -صلى الله عليه وسلم- على الخصوص من أمن عليه الاغترار والاتكال من أهل المعرفة، فإنه أخبر به معاذاً، فسلك معاذ هذا المسلك فأخبر به من الخاصة من رآه أهلاً لذلك". (17)
وقال ابن رجب في شرحه لأوائل صحيح البخاري: " قال العلماء يؤخذ من منع معاذ من تبشير الناس لئلا يتكلوا أن أحاديث الرخص لا تشاع في عموم الناس لئلا يقصر فهمهم عن المراد بها، وقد سمعها معاذ فلم يزدد إلا اجتهاداً في العمل وخشية الله -عز وجل-، فأما من لم يبلغ منزلته فلا يؤمن أن يقصر اتكالاً على ظاهر هذا الخبر". (18)
ولما أخبر أبو هريرة عمر - رضي الله عنهما - بحديث: "من شهد أن لا إله إلا الله مستيقناً به قلبه دخل الجنة، فقام عمر وضرب بيده بين ثديي أبى هريرة حتى أسقطه، وقال ارجع يا أبا هريرة، فرجع أبو هريرة إلى رسول الله، وأخبره بما فعل عمر، فقال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: ما حملك على ما فعلت؟ قال عمر: فلا تفعل فإني أخشى أن يتكل الناس عليها، فخلهم يعملون. قال الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خلهم". رواه مسلم.
¥