وقريباً من ذلك يقرره ابن القيم موضحاً أن " التحريم لم يتعلق بذات الدرهم –أي الدرهم الحرام الذي اختلط بماله- وجوهره، وإنما تعلق بجهة الكسب فيه، فإذا خرج نظيره من كل وجه لم يبق لتحريم ما عداه معنى ... وهذا هو الصحيح في هذا النوع، ولا تقوم مصالح الخلق إلا به" (78)
وعلى ضوء هذا المبدأ نرى كثيراً من أهل العلم أجازوا التعامل مع من كان في ماله حرام، ولكن غالبه حلال، ومن هنا يمكن القول بإباحة التعامل في هذا النوع من الأسهم، ولكن يخرج صاحبها بقدر نسبة الحرام فيها إلى الجهات الخيرية العامة، مع مراعاة الضوابط التي نذكرها في الأخير (79)
ثانياً: قاعدة: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً، وقد ذكرنا هذه القاعدة مع دليلها من السنة الصحيحة المتفق عليها. (80)
وعلى ضوء ذلك فهذا النوع من الأسهم وإن كان فيه نسبة بسيطة من الحرام لكنها جاءت تبعاً، وليست أصلاً مقصوداً بالتملك والتصرف، فما دامت أغراض الشركة مباحة، وهي أنشئت لأجل مزاولة نشاطات مباحة، غير أنها قد تدفعها السيولة أو نحوها إلى إيداع بعض أموالها في البنوك الربوية، أو الاقتراض منها.
فهذا العمل بلا شك عمل محرم يؤثم فاعله (مجلس الإدارة) لكنه لا يجعل بقية الأموال والتصرفات المباحة الأخرى محرمة، وهو أيضاً عمل تبعي وليس هو الأصل الغالب الذي لأجله أنشئت الشركة.
ثالثاً: قاعدة: للأكثر حكم الكل، وقد ذكرنا فيما سبق نصوص الفقهاء في حكم المال المختلط بالحرام، حيث إن الجمهور على أن العبرة بالأغلب –كما سبق- (81) وقد ذكر الفقهاء لهذه القاعدة تطبيقات كثيرة في أبواب الطهارة، والعبادات، والمعاملات، اللباس –كالحرير- والصيد، والطعام، والأيمان، وغيرها. (82)
إضافة إلى قاعدة: " الحاجة العامة تنزل منزلة الضرورة "–كما سبق ذكرها- وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن الشراء ممن في ماله شبهة لا كراهة فيه إذا وجدت الحاجة إليه. (83)
وتنزيل هذه القاعدة على موضوعنا من حيث إن حاجة الناس إلى أسهم الشركات في عالمنا الإسلامي ملحة، فالأفراد كلهم لا يستغنون عن استثمار مدخراتهم، والدول كذلك بحاجة إلى توجيه ثروات شعوبها إلى استثمارات طويلة الأجل بما يعود بالخير على الجميع، ولو امتنع المسلمون من شراء أسهم تلك الشركات لأدى ذلك إلى أحد أمرين:
أحدهما: توقف هذه المشروعات التي هي حيوية في العالم الإسلامي.
ثانيهما: غلبة غير المسلمين على هذه الشركات، وعلى إدارتها، أو على الأقل غلبة الفسقة والفجرة عليها.
لكن لو أقدم على شرائها المسلمون المخلصون لأصبحوا قادرين في المستقبل على منع تعاملها مع البنوك الربوية ولغيروا اتجاه الشركة لصالح الإسلام.
وهذا لا يعني أن المسؤولين القادرين في الشركة وفي غيرها على التغيير معفون عن الإثم، بل هم آثمون، لكن عامة الناس لهم الحق في شراء هذه الأسهم حسب الضوابط التي نذكرها، ولذلك لو كان المساهم قادراً على منع الشركة من إيداع بعض أموالها في الشركة لوجب عليه ذلك.
مناقشة الرأي الأول المانع من تداول هذا النوع من الأسهم:
أولاً: أن وجود نسبة ضئيلة من الحرام في المال الحلال لا يجعله حراماً، وإنما يجب نبذ المحرم فقط –كما سبق تفصيله-.
ثانياً: أن اشتراط البعض في حل الأسهم أو التعامل مع الشركات وجود رقابة شرعية لشركتها لا نجد له دليلاً من كتاب، أو سنة، أو إجماع، أو قياس صحيح، فالمسلمون مؤتمنون على دينهم وعلى الحل والحرمة، وهم مستورون، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
"والمسلم إذا عامل معاملات يعتقد جوازها كالحيل ... " التي يفتي بها من يفتي ... جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في ذلك المال، ثم قال: "وأما المسلم المستور فلا شبهة في معاملته أصلاً، ومن ترك معاملته ورعاً كان قد ابتدع في الدين بدعة ما أنزل الله بها من سلطان" (84)
بل إن التعامل مع الكفرة جائز فيما ليس محرماً بالاتفاق، يقول ابن تيمية:
" ... وحينئذ فجميع الأموال التي بأيدي المسلمين واليهود والنصارى لا يعلم بدلالة ولا أمارة أنها مغصوبة، أو مقبوضة لا يجوز معه معاملة القابض، فإنه يجوز معاملته فيها بلا ريب ولا تنازع في ذلك بين الأئمة أعلمه". (85)
¥