أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإراقة الخمر ونهى عن إمساكه مطلقاً، فمن ذلك حديث أنس السابق في الخمر الذي ورثه اليتامى ففي رواية للترمذي وغيره أنه قال له:" أهرق الخمر، واكسر الدنان "، وما رواه أحمد والترمذي وغيرهما عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" كان عندنا خمر ليتيم فلما نزلت المائدة سألت الرسول صلى الله عليه وسلم وقلت: إنه ليتيم، فقال: أهريقوه "، ويدل عليه أيضاً فعل الصحابة رضي الله عنهم الثابت في الصحاح لما بلغهم تحريم الخمر عمدوا إلى خمورهم فأراقوها حتى جرت في سكك المدينة، وما رواه مسلم عن ابن عباس رضي الله عنهما " أن رجلاً أهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم راوية خمر فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم:هل علمت أن الله حرمها؟ قال: لا، قال:فسار رجلاً، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها، فقال: إن الذي حرم شربها حرم بيعها، قال: ففتح المزادة حتى ذهب ما فيها " وغير ذلك من الأحاديث، وكلها تدل على وجوب إراقة الخمر وعدم إمساكه، وكل هذه الأحاديث تدل على أن إبقاء الخمر حتى مع عدم شربها – كهذه العطورات- لا يجوز، بل الواجب هو إراقتها.
قال ابن قدامة رحمه الله تعالى:
"ولو كان إلى استصلاحها سبيل لم تجز إراقتها بل أرشدهم إليه، سيما وهي لأيتام –يعني حديثي أنس وأبي سعيد السابقين- يحرم التفريط في أموالهم"اهـ.
وقال القرطبي رحمه الله تعالى –عن تخليل الخمر-:
"ذهب جمهور الفقهاء إلى أن الخمر لا يجوز تخليلها لأحد، ولو جاز تخليلها ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع الرجل أن يفتح المزادة حتى يذهب ما فيها لأن الخل مال وقد نهى عن إضاعة المال، ولا يقول أحد فيمن أراق خمراً على مسلم أنه أتلف مالاً وقد أراق عثمان بن أبي العاص خمراً ليتيم"اهـ.
الدليل السادس
أن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن التداوي بالخمر، أو جعلها مع الدواء للاستشفاء بها، كما روى مسلم عن طارق بن سويد رضي الله عنه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الخمر فنهاه، فقال: إنما أصنعها للدواء، فقال:" إنه ليس بدواء، ولكنه داء "، وفي رواية لأهل السنن (إنه سئل عن الخمر يجعل في الدواء)، وفي السنن من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم " نهى عن الدواء الخبيث "، وروى أبو داود من حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال:" إن الله أنزل الداء والدواء، وجعل لكل داء دواء، فتداووا، ولا تداووا بالمحرم "، وأحاديث الباب كثيرة مشهورة.
ومن المعلوم أن الشارع يرخص لذوي الحاجات ما لا يرخص لغيرهم، ويبيح لهم ما لا يبيح لغيرهم، وأن المريض له أن يترخص وأن يتناول بعض ما لا يجوز له تناوله وهو صحيح معافى.
فالنهي عن استعمال الخمر للدواء أو وضعه فيه مع أن المستخدم لهذا الدواء هم المرضى يدل من باب أولى على النهي عن استعماله فيما لا حاجة فيه من الأمور التحسينيات – وهو التعطر والتزين به – خاصة وأن هناك ما يقوم مقامه من العطور التي أباحها الله.
الدليل السابع
أن الشارع سد جميع الذرائع المفضية للسكر، فحرم الخمر ولعن فيها عشرة، وأمر بإراقتها حتى ولو كانت ليتامى، وأمر بكسر دنانها، وحرم إمساكها بوجه من الوجوه حتى لو كان لتخليلها، ونهى عن الانتباذ في الأوعية التي يدب فيها السكر وغيره.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"إن الله حرم الخمر لما فيها من المفاسد الكثيرة المترتبة على زوال العقل، وهذا ليس مما نحن فيه، لكن حرم القطرة الواحدة منها، وحرم إمساكها للتخليل، ونجسها، لئلا تتخذ القطرة ذريعة للحسوة، ويتخذ إمساكها للتخليل ذريعة لإمساكها للشرب، ثم بالغ في سد الذريعة فنهى عن الخليطين، وعن شرب العصير بعد ثلاث، وعن الانتباذ في الأوعية التي قد يتخمر النبيذ فيها ولا يعلم به، حسماً لمادة قربان المسكر"اهـ.
وأصل سد الذرائع من الأصول التي اعتبرها الشارع، قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
¥