قال أبو عمر – رحمه الله -: قد غلط فيه كثير من الناس، وضلت فيه نابتة جاهلة لا تدري ما عليها في ذلك، والصحيح في هذا الباب أن من صحَّت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إِلاَّ أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحته على طريق الشهادات، والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قال لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة، وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحَّت – لعدم الحفظ والإتقان – روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه، ويجهتد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماماً في الدين قول أحد من الطاعنين: إن السلف رضي الله عنهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير منه في حال الغضب، ومنه ما حمل عليه الحسد، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قال القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلاً واجتهاداً، لا يلزم تقليدهم في شيءٍ منه دون برهان وحجة توجبه.
# هذه أوصاف بعض أهل هذا الزمان!!
قال الإمام الخطابي ـ رحمه الله ـ في (العزلة ص162ـ 163):
وسأفيدك فائدةً يا أخي يَجِلُّ نفعُها ويعظم عائدتها، وما أقولها إلا عن ودٍّ لك، وشفقةٍ عليك؛ فإن البلوى في معاشرة أهل زمانك عظيمة، فاستعن بها على ما يلقاك من أذاهم؛ فإنك لا تخلو من قليله وإن سلِمتَ من كثيره؛ وذلكَ أنك قد ترى الواحد بعد الواحد منهم يتكالبُ على الناس، ويتسَفَّهُ على أعراضهم، وينبح فيها نباح الكلب، فيهمُّك من شأنه ما يهمُّك، ويسوءك منه ما يسوءك، إلا أنْ يكون رجلاً فاضلاً يُرجى خيره ويؤمن شرُّه، فيطول في أمره فكرك، ويدوم به شغل قلبك.
فأزح هذا العارض عن نفسك بأن تعده على الحقيقة كلبا خِلْقَة، وزد به في عدد الكلاب واحداً. ولعلك قد مررت مرة من المَرِّ بكلب من الكلاب ينبح ويعوي، وربما كان أيضاً قد يساور ويعقر، فلم تحدِّثْ نفسك في أمره بأن يعود إنساناً ينطقُ ويسيح، فلا تتأسف له ألاَّ يكون دابة تُركب أو شاة تحلب، فاجعل هذا المتكلِّب كلباً مثله، واسترح من شغله، واربح مؤونة الفكر فيه.
وكذلك فليكن عندك منزلة من جهل حقك وكَفَرَ معروفك، فاحسبه حماراً، أوزد به في عدد العانة (يعني: القطيع من حمر الوحش) واحداً، فبمثل هذا تتخلص من آفة هذا الباب وغائلته، والله المستعان.
جعلني الله وإيّاكم من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه إنه وليُ ذلك والقادر عليه.
إخواني رواد هذا الملتقى المبارك لا تبخلوا عليّ بما لديكم من ملاحظات ومعارضات وتعليقات إثراءً للموضوع وتتميماً للفائدة. وسلامتكم.
أخوكم/ أبو حاتم
ـ[البخاري]ــــــــ[14 - 12 - 02, 03:05 ص]ـ
ماشاء الله تبارك الله، وهل بعد عطر العروس شيء، كلام في الصميم اخي الكريم
ـ[أبوحاتم]ــــــــ[14 - 12 - 02, 02:18 م]ـ
كلام الأقران يطوى ولا يروى
هذه القاعدة ذكرها كثير من العلماء تأيدًا وتقريرًا لها، وهذا أمر لا معارضة فيه، لكن الذي يُشكل أن كثيرًا من طلبة العلم يأخذها مجردة عن القرائن التي قد تحتف بها أحياناً، فتجعل حكم القرين على القرين لا يكاد يندمل، لأنه عن خبرة وممارسة، فقوله هنا معتبر بل مقدم إذا لم يأتي ما يناقضه من بغي وحسد.
ومن الذي قال أن الأقران الأصل فيهم دائماً المنافسة بلا حق، بل الأصل ضد ذلك، وتأمل معي هذا الأثر. ذكر الذهبي ـ رحمه الله ـ عن همام عن ثابت البناني أن أبا برزة كان يلبس الصوف، فقيل له: إن أخاك عائذ بن عمرو يلبس الخزَّ، قال: ويحك! ومن مثل عائذ!؟ فانصرف الرجل، فأخبر عائذا فقال: ومن مثل أبي برزة؟!
قلت: هكذا كان العلماء يوقرون أقرانهم.
وقد ذكر الذهبي من هذه المواقف ما يشهد بحقيقة ما قلناه، ويؤيِّد ما ذكرناه.
وقد لخص الشريف حاتم العوني ـ سلمه الله ـ الكلام على هذه القاعدة فأجاد وأفاد، فقال:
وتذكر أن قاعدة (كلام الأقران يطوى ولا يروى) مقيّدةٌ فيمن حاله التي سبق شرحها، أمّا كلام وجرح القرين لقرينه الذي لم تثبت عدالته أو ضبطه فهذا من أقوى الجرح ثبوتاً، لأن القرين بقرينه أكثر معرفةً من غيره وأولى.
وقد يغلب على الظن وقوع الناقد في عدم الإنصاف، إذا لاحت بينهما عداوة، أو اختلاف مذهب. وهذه أيضاً ليست على إطلاقها، وإنما يُلجأ إليها إذا ما كان الأكثر على خلاف قول ذلك الناقد، أو عرف من ذلك الناقد شدّته على مخالفيه (كالجوز جاني في كلامه عن الشيعة). (خلاصة التأصيل لعلم الجرح والتعديل. ص:30ـ31)
وللإمام الذهبي ـ رحمه الله ـ كلام منثور على هذه القاعدة في كتابه السير من الناحية النظرية والتطبيقية، وكذلك غيره من المحدثين ....
والله تعالى أعلم وأحكم.
¥