أرأيت يا أخي هذا الاضطراب العظيم بين الروايتين مما يؤكد ولا شك أن الروايتين غير صحيحتين بالنسبة لعلل كل منهما.
على أن واضع هذا الحديث في الرواية الأولى يريد أن يوهم المسلمين إمكانية اتصال النبي صلى الله عليه وسلم بعد وفاته بأحد من أمته، بينما هذا مستحيل وقوعه ولو أمكن لكان من الأحرى والأجدى أن يتصل بأمته صلى الله عليه وسلم في حوادث هامة، لم يُعرف فيها الحق أين هو .. ومع من هو .. ؟ وكم كانت تلك الوقائع المؤلمة سبباً لقتل آلاف من الصحابة.
فيا سبحان الله يكلم رسول الله بعد وفاته الأعرابي .. ولا يكلم المسلمين فيما شجر بينهم من المشاكل؟!!! إن مثل هذه العلل في متن الروايتين كافية للحكم على هذا الحديث بالوضع والسقوط.
الكلام على سند هذا الحديث
ليس لرواية حديث العتبي أي سند يستأنس به للحكم بصحة الرواية، أو اعتلالها؛ ولكن رأينا بصيصاً من الضوء على ذلك، وهو:
إنه وإن كان العقد منفرطاً إلى العتبي، وغير معروف من رواه عنه، إنما نكتفي بالاستدلال على كذب الحديث، أو على الأقل على علة الانقطاع فيه، أن العتبي الذي يروي هذه الرواية عن الأعرابي كشاهد عيان!!! أن بينه وبين الأعرابي انقطاعاً يربو على مائتي سنة تقريباً وإليك البيان:
1 - قال زين الدين أبو بكر بن الحسين بن عمر أبو الفخر المراغي المتوفي سنة 816 هجرية في كتابه "تحقيق النصرة بتلخيص معالم دار الهجرة" ص 111 في /ترجمة العتبي/ قال: "أسمه محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين".
2 - وقال ابن الأثير في كتابه "اللباب في تهذيب الأنساب" 1/ 119:
" والعتبي وهي نسبة إلى عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدشمس أخي معاوية بن أبي سفيان. وينسب إليه جماعة، منهم محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عتبة بي أبي سفيان العتبي البصري يكنى أبا عبدالرحمن صاحب أخبار وآداب، حدث عن أبيه وابن عيينة وروى عنه أبو حاتم السجستاني".
3 - وقال ابن خلكان في "وفيات الأعيان" 1/ 522 - 523:
"أبو عبدالرحمن محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب بن أمية بن عبدالشمس القريشي الأموي المعروف بالعتبي الشاعر البصروي المشهور كان أديباً فاضلاً، وشاعراً مجيداً وكان يروي الأخبار وأيام العرب … إلى أن قال: روى عن أبيه وعن سفيان بن عيينة، ولط بن مخنف وروى عنه أبو حاتم السجستاني وأبو الفضل الرياشي وإسحاق بن محمد النعنعي وغيرهم وقدم بغداد وحدث بها أخذ عنه أهلها … إلى أن قال: وتوفي سنة ثمان وعشرين ومائتين رحمه الله تعالى".
4 - ولعل أحداً من القوم يقول: وما يدريك أن هذا هو العتبي، المعنى بالرواية عن الأعرابي فأقول:
وإنني أؤكد أنه هو نفسه الذي تزعمون أنه رأى الأعرابي صاحب القصة ودليلنا على ذلك ما حكى عنه المؤرخون وخاصة اعتراف رجل منكم ممن يجوزون التوسل بذوات المخلوقين وهو: الشيخ السبكي مؤلف كتاب "شفاء السقام" الذي رد عليه ابن عبدالهادي في كتابه "الصارم المنكي في الرد على السبكي" قال في ص 136 منه:
" قال السبكي في كتابه /شفاء السقام في زيارة خير الأنام/ العتبي، وأسمه محمد بن عبدالله بن عمر بن معاوية بن عمر بن عتبة بن أبي سفيان صخر بن حرب كان من أفصح الناس رواية للأدب وحدث عن أبيه، وسفيان بن عيينة توفي سنة ثمان وعشرين ومائتين يكنّى أبا عبدالرحمن"أهـ.كلام السبكي. وذلك طبعاً بعد أن ذكر حكاية العتبي وروايته عن الأعرابي مستدلاً بها في كتابه على جواز التوسل بذوات المخلوقين.
إذاً فالعتبي الذي تزعمون أنه صاحب الرواية عن الأعرابي، هو نفسه المترجم له في الكتب المذكورة بشهادة شيخكم السبكي في كتابه /شفاء السقام في زيارة خير الأنام/ [وشهد شاهد من أهلها] بينما في الحقيقة أن العتبي هذا، تأخر عن العتبي الذي يردون إقحامه في الرواية عن الأعرابي، بما يربو على المائتي سنة تقريباً؛ فتأمل!
قال ابن عبدالهادي في كتابه [الصارم المنكي في الرد على السبكي]:
"وأما حكاية العتبي التي أشار إليها –أي السبكي- حكاية ذكرها بعض الفقهاء والمحدثين، وليست بصحيحة ولا ثابتة إلى العتبي .. !!
وقد رويت عن غيره بإسناد مظلم، وهي في الجملة حكاية لا يثبت بها حكم شرعي، لا سيما في مثل هذا الأمر الذي لو كان مشروعاً مندوباً، لكان الصحابة والتابعون أعلمَ به وأعملَ به من غيرهم وبالله التوفيق" أهـ).
"أنظر "التوصّل" للرفاعي محمد نسيب ص274 - 279"
وقال المُحدِّث العلامة محمد بشير السهسواني الهندي في "صيانة الإنسان من وسوسة الشيخ دحلان" رداً على استدلال دحلان بحديث العتبي قائلاً:
(أقول: ليست هذه الحكاية مما تقوم به الحجة.
قال في الصارم المنكي: وهذه الحكاية التي ذكرها بعضهم يرويها عن العتبي بلا إسناد، وبعضهم يرويها عن محمد بن حرب عن أبي الحسن الزعفراني عن الأعرابي، وقد ذكرها البيهقي في كتاب شعب الإيمان بإسناد مظلم عن محمد بن روح بن يزيد البصري حدثني أبو حرب الهلالي قال: حج أعرابي، فلما جاء إلى باب مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أناخ راحلته فعقلها، ثم دخل المسجد حتى أتى القبر، ثم ذكر نحو ما تقدم. وقد وضع لها بعض الكذابين إسناداً إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سيأتي ذكره [أتى ذكره في الرابط السابق].
وفي الجملة ليست هذه الحكاية المذكورة عن الأعرابي مما تقوم به حجة، وإسنادها مظلم مختلف، ولفظها مختلف أيضاً، ولو كانت ثابتة لم يكن فيها حجة على مطلوب المعترض، ولا يصلح الاحتجاج بمثل هذه الحكاية ولا الاعتماد على مثلها عند أهل العلم، وبالله التوفيق).
¥