ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله –: "المخالفون للكتاب والسنة وسلف الأمة من المتأولين في هذا الباب في أمر مريج، فإن من ينكر الرؤية يزعم أن العقل يحيلها, وأنه مضطر فيها إلى التأويل, ومن يحيل أن لله علماً وقدرة وأن يكون كلامه غير مخلوق ونحو ذلك يقول إن العقل أحال ذلك فاضطر إلى التأويل، بل من ينكر حشر الأجساد والأكل والشرب الحقيقيين في الجنة يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل، ومن يزعم أن الله ليس فوق العرش يزعم أن العقل أحال ذلك وانه مضطر إلى التأويل.
ويكفيك دليلا على فساد قول هؤلاء أنه ليس لواحد منهم قاعدة مستمرة فيما يحيله العقل، بل منهم من يزعم أن العقل جوز وأوجب ما يدعى الآخر أن العقل أحاله.
فيا ليت شعرى، بأى عقل يوزن الكتاب والسنة! فرضى الله عن الإمام مالك بن أنس حيث قال: أو كلما جاءنا رجل أجدل من رجل تركنا ما جاء به جبريل إلى محمد ? لجدل هؤلاء ().
ثانياً: لا بد أن يعلم القاريء الكريم أن مصدر التلقي عند الأشاعرة هو العقل, وقد صرح الجويني والرازي والبغدادي والغزالي والآمدي والإيجي وابن فورك والسنوسي , وشراح "الجوهرة", وسائر أئمتهم بتقديم العقل على النقل عند التعارض، بل إن من المعاصرين منهم ومن هؤلاء السابقين من صرح أن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة أصل من أصول الكفر, وبعضهم خففها فقال: هو أصل الضلالة ()!
قال السنوسي في "شرح الكبرى": وأما من زعم أن الطريق إلى معرفة الحق هو الكتاب والسنة, ويحرم ما سواهما؛ فالرد عليه أن حجتهما لا تعرف إلا بالنظر العقلي, وأيضاً فقد وقعت فيهما ظواهر من اعتقدها على ظاهرها كفر عند جماعة وابتدع.
ويقول أيضا: أصول الكفر ستة فذكر خمسة. ثم قال: سادساً: التمسك في أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غير عرضها على البراهين العقلية والقواطع الشرعية!
ثالثاً: صرح متكلموهم – الرازي - أن نصوص الكتاب والسنة ظنية الدلالة, ولا تفيد اليقين إلا إذا سلمت من عشر عوارض منها الإضمار والتخصيص والنقل والاشتراك والمجاز .. إلخ.
وسلمت بعد هذا من المعارض العقلي، بل قالوا: من احتمال المعارض العقلي ()!
ولذلك قال الرازي مقولته المشهورة: إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية أو السمع والعقل أو النقل والعقل أو الظواهر النقلية والقواطع العقلية أو نحو ذلك من العبارات؛ فإما أن يجمع بينهما وهو محال لأنه جمع بين النقيضين, وإما أن يردا جميعاً, وإما أن يقدم السمع وهو محال، لأن العقل أصل النقل؛ فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل, والقدح في أصل الشيء قدح فيه؛ فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً فوجب تقديم العقل ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض.
قلت: الاستناد إلى طاغوت العقل وجعله حاكماً على الشرع قول على الله بغير علم ورد لأحاديث رسول الله ? بحجة أنها ليست من القطعيات, وأنها آحاد, وقد دخل شر عظيم على الأمة من جعل العقل مقياساً وحاكماً لما ورد في النقل.
قال صاحب "الجوهرة":
وكل نص أوهم التشبيها أوِّله أو فوّض ورم تنزيها
وهذا معنى ما ذكره الرازي في مقولته المتقدمة.
يقول سعيد فودة في كتابه "النقد" (ص30): ولكن العقائد اشترط فيها كونها قطعية لما لها من محل كبير في الدين, ولكونها أصولاً يقوم الدين عليها وزيادة شرط القطع في العقائد لا يستلزم عدم الأخذ من الله تعالى، لأن القطع يتحقق أيضاً في المنقول من الشرائع, ولكن اشترط كون المأخوذ منه هو الله أو الرسول لكي يعتبر تديناً هو إبطال لاعتبار مجرد العقل في التدين كما هو معلوم في أصول الدين.
وقال في "تهذيب شرح السنوسية" (ص44): عدد المعاني سبعة لا أكثر لأن الدليل القطعي إنما دل على هذه السبعة ... ثم قال بعد كلام: ولم يرد في الكتاب والسنة ما يدل على ماعدا هذه الصفات دلالة قطعية, والأصل أن نتمسك بالدليل القطعي خصوصاً فيما يتعلق بذات الله تعالى وصفاته, وأما ما ورد من نسبة الوجه واليد والعين إلى الله تعالى فراجع إلى ما ذكرناه من الصفات السبعة ولا يزيد عليها.
¥