وبعد الدراسة لهذه المرحلة دراسة مدققة توصلت إلى أنه عندما تراجع عن فكر الاعتزال التقى بالحنابلة الذين كانوا قد غالوا حتى وصلوا إلى أطراف التجسيم بل كثير منهم كان قد غاص فيه, والتقى بأحد مشايخهم وهو الحافظ زكريا الساجي المتوفى سنة 307هـ, ومنه عرف الأشعري مقالة الحنابلة وعقائدهم, وعلى إثر هذا ألف كتابه "الإبانة عن أصول الديانة"؛ هذا الكتاب الذي قال فيه الكوثري: إن الإمام الأشعري حاول بهذا الكتاب أن يتدرج بالمجسمة من أحضان التجسيم ليرفعهم إلى أعتاب التنزيه, ولا شك أن هذا الكتاب كان بعد أن رأى الأشعري مدى اختلاط الحنابلة بعقائد المجسمة؛ فأراد أن يرفعهم عن هذه الدرجة فألف كتاب "الإبانة", وألف كثيراً من الكتب نحو "اللمع" و"رسالة إلى أهل الثغر" وغيرها!
قلت: ومعرفة الأشعري لمذهب السلف لما التقى بالساجي أشار إليها شيخ الإسلام في "الفتاوى المصرية" (5/ 251).
3 - مسألة أن الله لا داخل العالم ولا خارجه:
ألف سعيد فودة رسالة في تقرير أن الله ليس داخل العالم ولا خارجه, وتعقب في ذلك شيخنا الألباني رحمه الله, وهو بذلك يكرر ما قرره سلفه من الأشاعرة ليتوصلوا بها إلى نفي علو الله على خلقه.
وللجواب على ذلك نقول:
1 - إن قولنا أن الله لا داخل العالم ولا خارجه من الألفاظ التي لم ينطق بها كتاب ولا سنة.
2 - أراد المتكلمون بذلك نفي صفة العلو باصطلاحاتهم, وأن الذي يقال له فوق أو يشار إليه أنه جسم.
3 - إن العدم هو الذي يقال فيه لا فوق ولا تحت ولا عن يمين ولا شمال, وفي ذلك المناظرة المشهورة بين ابن الهيصم السني وأحد علماء الأشاعرة وهو ابن فورك في هذه المسألة بحضرة السلطان محمود بن سبكتكين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وأظهر السلطان محمود بن سبكتكين لعنة أهل البدع على المنابر وأظهر السنة وتناظر عنده ابن الهيصم وابن فورك في مسألة العلو فرأى قوة كلام ابن الهيصم فرجح ذلك, ويقال إنه قال لابن فورك: فلو أردت أن تصف المعدوم كيف كنت تصفه بأكثر من هذا؟ أو قال: فرق لي بين هذا الرب الذي تصفه وبين المعدوم؟ وأن ابن فورك كتب إلى أبي إسحق الإسفراييني يطلب الجواب عن ذلك؛ فلم يكن الجواب إلا أنه لو كان فوق العرش للزم أن يكون جسماً! ().
4 - أن يقال لهم: كان الله قبل أن يخلق السماوات والأرض ثم خلقهما فهل خلقهما في نفسه أو خارجاً عنه؛ فالأول باطل, والثاني حق وهو أن الله عال على خلقه. وقال شيخ الإسلام: وقد علم أن ما من موجود إلا الخالق والمخلوق, والخالق مباين للمخلوق سبحانه وتعالى ليس في مخلوقاته شيء من ذاته ولا في ذاته شيء من مخلوقاته. فيقال لمن نفى الجهة: أتريد بالجهة أنها شيء موجود مخلوق، فالله ليس داخلاً في المخلوقات. أم تريد بالجهة ما وراء العالم؛ فلا ريب أن الله فوق العالم مباين للمخلوقات. وكذلك يقال لمن قال الله في جهة أتريد بذلك أن الله فوق العالم أو تريد به أن الله داخل في شيء من المخلوقات. فإن أردت الأول فهو حق وإن أردت الثاني فهو باطل ().
4 - مسألة النظر العقلي وأول واجب على المكلف:
أ- هذه المسألة من مخلفات مذهب المعتزلة التي انتقلت إلى الأشاعرة.
قال ابن حجر في "الفتح" (3/ 361) شارحاً قول النبي ? لما بعث معاذاً إلى اليمن: ((فليكن أو ما تدعوهم إليه أن يوحدوا الله فإذا عرفوا ذلك .. )): وقد تمسك به من قال أول واجب المعرفة كإمام الحرمين, واستدل بأنه لا يتأتى الإتيان بشيء من المأمورات على قصد الامتثال, ولا الانكفاف عن شيء من المنهيات على قصد الانزجار إلا بعد معرفة الآمر والناهي, واعترض عليه بأن المعرفة لا تتأتى إلا بالنظر والاستدلال وهو مقدمة الواجب فيجب فيكون أول واجب النظر, وذهب إلى هذا طائفة كابن فورك؛ وتعقب بأن النظر ذو أجزاء يترتب بعضها على بعض فيكون أول واجب جزءاً من النظر, وهو محكي عن القاضي أبي بكر بن الطيب, وعن الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني أول واجب القصد إلى النظر (). وقد ذكرت في كتاب الإيمان من أعرض عن هذا من أصله, وتمسك بقوله تعالى: ?فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا? [الروم:30]. وحديث: ((كل مولود يولد على الفطرة)). فإن ظاهر الآية والحديث أن المعرفة حاصلة بأصل الفطرة , وأن الخروج عن ذلك يطرأ على الشخص لقوله عليه الصلاة والسلام:
¥