قال: فضاق بابن كلاب وأضرابه النفس عند هذا الإلزام لقلة معرفتهم بالسنن وتركهم قبولها, وتسليمهم العنان إلى مجرد العقل. فالتزموا ما قالته المعتزلة, وركبوا مكابرة العيان, وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة: المسلم والكافر, وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام, وإنما سمي ذلك كلاماً على المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه, وحقيقة الكلام معنى قائم بذات المتكلم؛ فمنهم من اقتصر على هذا القدر, ومنهم من احترز عما علم دخوله على هذا الحد فزاد فيه - تنافي السكوت والخرس والآفات المانعة فيه من الكلام - ثم خرجوا من هذا إلى أن إثبات الحرف والصوت في كلام الله تجسيم, وإثبات اللغة فيه تشبيه, وتعلقوا بشبه منها قول الأخطل:
إن البيان من الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلا
فغيروه وقالوا: إن الكلام من الفؤاد ().
ثم قال شيخ الإسلام: وإنما اضطر ابن كلاب و الأشعري, ونحوهما إلى هذا الأصل: أنهم لما اعتقدوا أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته لا فعل ولا تكلم, ولا غير ذلك, وقد تبين لهم فساد قول من يقول: "القرآن مخلوق"، ولا يجعل لله تعالى كلاماً قائماً بنفسه بل يجعل كلامه ما خلقه في غيره, وعرفوا أن الكلام لا يكون مفعولاً منفصلاً عن المتكلم, ولا يتصف الموصوف بما هو منفصل عنه بل إذا خلق الله شيئاً من الصفات, والأفعال بمحل كان ذلك صفة لذلك المحل لا لله؛ فإذا خلق في محل الحركة كان ذلك المحل هو المتحرك بها , وكذلك إذا خلق فيه حياة كان ذلك المحل هي الحي بها, وكذلك إذا خلق علماً أو قدرة كان ذلك المحل هو العالم القادر بها؛ فإذا خلق كلاماً في غيره كان ذلك المحل هو المتكلم به.
وهذا التقرير مما اتفق عليه القائلون بأن القرآن غير مخلوق من جميع الطوائف، مثل أهل الحديث والسنة، ومثل الكرامية والكلابية وغيرهم.
ولازم هذا أن من قال: "إن القرآن العربي مخلوق"، أن لا يكون القرآن العربي كلام الله بل يكون كلاماً للمحل الذي خلق فيه, ومن قال: إن لفظ الكلام يقع بالاشتراك على هذا وهذا, تبطل حجته على المعتزلة؛ فإن أصل الحجة أنه إذا خلق كلاماً في محل؛ كان الكلام صفة لذلك المحل؛ فإذا كان القرآن العربي كلاماً مخلوقاً في محل كان ذلك المحل هو المتكلم به, ولم يكون كلام الله ولهذا قال من قال: "لا يسمى كلاماً إلا مجازاً" فرارا من أن يثبتوا كلاماً حقيقياً قائماً بغير المتكلم به؛ فلما عظم شناعة الناس على هذا القول, وكان تسمية هذا كلاماً حقيقة معلوماً بالاضطرار من اللغة أراد من ينصرهم أن يجعل لفظ الكلام مشتركاً؛ فأفسد الأصل الذي بنوا عليه قولهم.
وبإنكار هذا الأصل استطال عليهم من يقول بخلق القرآن من المعتزلة والشيعة والخوارج, ونحوهم؛ فإن هؤلاء لما ناظرهم من سلك طريقة ابن كلاب - ومضمونها: أن الله لا يقدر على الكلام ولا يتكلم بما شاء, ولا هو متكلم باختياره ومشيئته () - طمع فيهم أولئك، لأن جمهور الخلق يعلمون أن المتكلم يتكلم بمشيئته واختياره, وهو قادر على الكلام وهو يتكلم بما يشاء.
ولكن منشأ اضطراب الفريقين اشتراكهما في أنه لا يقوم به ما يكون بإرادته وقدرته فلزم هؤلاء - إذا جعلوا الله يتكلم بإرادته وقدرته واختياره - أن يكون كلامه مخلوقاً منفصلاً عنه, ولزم هؤلاء - إذا جعلوه غير مخلوق - أن لا يكون قادراً على الكلام, ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يتكلم بما يشاء.
والمقصود هنا: أن عبد الله بن سعيد بن كلاب, وأتباعه وافقوا سلف الأمة وسائر العقلاء على أن كلام المتكلم لا بد أن يقوم به فما لا يكون إلا بائناً عنه لا يكون كلامه كما قال الأئمة: كلام الله من الله ليس ببائن منه, وقالوا: إن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود, فقالوا: "منه بدأ" رداً على الجهمية الذين يقولون: بدأ من غيره, ومقصودهم أنه هو المتكلم به كما قال تعالى: {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}، وقال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}، وأمثال ذلك.
¥