ثم إنهم - مع موافقتهم للسلف والأئمة والجمهور على هذا - اعتقدوا هذا الأصل, وهو أنه لا يقوم به ما يكون مقدوراً له متعلقاً بمشيئته بناء على هذا الأصل الذي وافقوا فيه المعتزلة؛ فاحتاجوا حينئذ أن يثبتوا ما لا يكون مقدوراً مراداً, قالوا: والحروف المنظومة والأصوات لا تكون إلا مقدورة مرادة؛ فأثبتوا معنى واحداً لم يمكنهم إثبات معان متعددة خوفاً من إثبات ما لا نهاية له فاحتاجوا أن يقولوا ط معنى واحداً"، فقالوا القول الذي لزمته تلك اللوازم التي عظم فيها نكير جمهور المسلمين بل جمهور العقلاء عليهم.
وأنكر الناس عليهم أموراً منها: إثبات معنى واحد هو الأمر والخبر وجعل القرآن العربي ليس من كلام الله الذي تكلم به, وأن الكلام المنزل ليس هو كلام الله وأن "التوراة" و"الإنجيل" و"القرآن" إنما تختلف عباراتها؛ فإذا عبر عن التوراة بالعربية كان هو القرآن, وأن الله لا يقدر أن يتكلم, ولا يتكلم بمشيئته واختياره وتكليمه لمن كلمه من خلقه كموسى وآدم ليس إلا خلق إدراك ذلك المعنى لهم، فالتكليم هو خلق الإدراك فقط.
ثم منهم من يقول: السمع يتعلق بذلك المعنى, وبكل موجود فكل موجود يمكن أن يرى ويسمع كما يقوله أبو الحسن ونحوه.
ومنهم من يقول: إنه يسمع ذلك المعنى من القاريء مع صوته المسموع منه كما يقول ذلك طائفة أخرى.
وجمهور العقلاء يقولون: إن هذه الأقوال معلومة الفساد بالضرورة, وإنما ألجأ إليها القائلين بها ما تقدم من الأصول التي استلزمت هذه المحاذير وإذا انتفى اللازم انتفى الملزوم ().
وأنكر الأشاعرة أن الله يتكلم بحرف وصوت () وقالوا: هما مخلوقان لله!
قال الإيجي في "المواقف" (3/ 129): إذا عرفت هذا فاعلم أن ما يقوله المعتزلة, وهو خلق الأصوات والحروف وكونها حادثة قائمة؛ فنحن نقول به, ولا نزاع بيننا وبينهم في ذلك. وما نقوله من كلام النفس فهم ينكرون ثبوته.
وأما الرد عليهم:
أولا: عقيدة أهل السنة والجماعة أن كلام الله حرف والصوت، "ومن أنكر أن الله يتكلم بحرف وصوت فهو جهمي ().
ثانياً: إن هذه المسألة من المسائل التي يجب أن يستفصل عن معناها.
قال شيخ الإسلام: "ويتبين هذا الجواب بالكلام على المسألة الثانية وهي قوله إن كلام الله هل هو حرف وصوت أم لا؛ فإن إطلاق الجواب في هذه المسألة نفياً وإثباتاً خطأ, وهي من البدع المولدة الحادثة بعد المائة الثالثة، لما قال قوم من متكلمة الصفاتيه إن كلام الله الذي أنزل على أنبياءه كالتوراة والإنجيل والقرآن, والذي لم ينزله، والكلمات التي كون بها الكائنات، والكلمات المشتملة على أمره ونهيه وخبره؛ ليست إلا مجرد معنى واحد هو صفة واحدة قامت بالله إن عبر عنها بالعبرانية كانت التوراة, وإن عبر عنها بالعربية كانت القرآن, وأن الأمر والنهي والخير صفات لها لا أقسام لها, وأن حروف القرآن مخلوقة خلقها الله ولم يتكلم بها, وليست من كلامه إذ كلامه لا يكون إلا بحرف وصوت.
وعارضهم آخرون من المثبتة فقالوا بل القرآن هو الحروف والأصوات، وتوهم قوم أنهم يعنون بالحروف المداد وبالأصوات أصوات العباد, وهذا لم يقله عالم.
والصواب الذي عليه سلف الأمة كالإمام أحمد والبخاري صاحب "الصحيح" في كتاب "خلق أفعال العباد", وغيره وسائر الأئمة قبلهم وبعدهم أتباع النصوص الثابتة, وإجماع سلف الأمة, وهو: أن القرآن جميعه كلام الله حروفه ومعانيه ليس شيء من ذلك كلاماً لغيره, ولكن أنزله على رسوله وليس القرآن اسماً لمجرد المعنى ولا لمجرد الحرف بل لمجموعها, وكذلك سائر الكلام ليس هو الحرف فقط ولا المعاني فقط، كما أن الإنسان المتكلم الناطق ليس هو مجرد الروح ولا مجرد الجسد بل مجموعهما. وأن الله تعالى يتكلم بصوت كما جاءت به الأحاديث الصحيحة, وليس ذلك كأصوات العباد لا صوت القاريء ولا غيره, وأن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فكما لا يشبه علمه وقدرته وحياته علم المخلوق وقدرته وحياته, كذلك لا يشبه كلامه كلام المخلوق, ولا معانيه تشبه معانيه, ولا حروفه يشبه حروفه, ولا صوت الرب يشبه صوت العبد؛ فمن شبه الله بخلقه فقد ألحد في أسمائه وآياته ومن جحد ما وصف به نفسه فقد ألحد في أسمائه وآياته ().
وقال ابن حجر مثبتاً الحرف والصوت لله: واختلف أهل الكلام في أن كلام الله هل هو بحرف وصوت أم لا؟
¥