قلت: وهذا الكلام هو عين كلام الجهمية الذين ينكرون أن الله يتكلم بقدرته ومشيئته, ويمتنع عندهم أنه كان قادراً على الخلق حتى خلق وعلى الإحياء حتى أحيا؛ فكان معطلاً لا يفعل شيئا ولا يتكلم بشيء بل هو وحده موجود بلا كلام ولا فعل يفعله ثم أحدث ما أحدث من كلامه ومفعولاته.
قال ابن أبي العز: وأصل هذا الكلام من الجهمية؛ فإنهم قالوا إن دوام الحوادث ممتنع, وأنه يجب أن يكون للحوادث مبدأ لامتناع حوادث لا أول؛ فيمتنع أن يكون الباري عز وجل لم يزل فاعلاً متكلماً بمشيئته بل يمتنع أن يكون قادراً على ذلك لأن القدرة على الممتنع ممتنعة وهذا فاسد ().
ولذلك قرر الإمام الطحاوي في عقيدته الرد على أولئك الجهمية وأضرابهم بقوله: "ليس بعد الخلق استفاد اسم الخالق, ولا بإحداثه البرية استفاد اسم الباري له معنى الربوبية ولا مربوب, ومعنى الخالق ولا مخلوق, وكما أنه محيي الموتى بعد ما أحيا استحق هذا الاسم قبل أحيائهم كذلك استحق اسم الخالق قبل إنشائهم.
قلت: وهو الذي يسميه المتكلمون بقدم النوع.
ثالثاً: وأما التسلسل الممكن فالتسلسل في مفعولاته من هذا الطرف كما تتسلسل في طرف الأبد؛ فإذا لم يزل حياً قادراً مريداً متكلماً, وذلك من لوازم ذاته فالفعل ممكن له بموجب هذه الصفات له - أي يمكن أن يخلق وأن لا يخلق, أن يتكلم, وأن لا يتكلم سبحانه فهو يفعل ما يشاء -، وأن يفعل أكمل من أن لا يفعل, ولا يلزم من هذا أنه لم يزل الخلق معه فإنه سبحانه متقدم على كل فرد من مخلوقاته تقدماً لا أول له؛ فلكل مخلوق أول, والخالق سبحانه لا أول له؛ فهو وحده الخالق, وكل ما سواه مخلوق كائن بعد أن لم يكن ().
وقال أيضاً: والمقصود أن الذي دل عليه الشرع والعقل أن كل ما سوى الله تعالى محدث كائن بعد أن لم يكن؛ أما كون الرب تعالى لم يزل معطلاً عن الفعل ثم فعل؛ فليس في الشرع, ولا في العقل ما يثبته بل كلاهما يدل على نقيضه ().
وهذا التسلسل الممكن هو الذي قرره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وهو واضح بين, وفرق بين هذا القول, وبين قول الفلاسفة القائلين بقدم العالم وبحوادث لا أول لها موجبة بالذات - أي ملازمة لذات الله لا تنفك عنه-.
ولذلك قال ابن أبي العز رحمه الله: "ومن المعلوم بالفطرة أن كون المفعول مقارناً لفاعله لم يزل ولا يزال معه ممتنع محال, ولما كان تسلسل الحوادث في المستقبل لا يمنع أن يكون الرب سبحانه هو الآخر الذي ليس بعده شيء؛ فكذا تسلسل الحوادث في الماضي لا يمنع أن يكون سبحانه هو الأول الذي ليس قبله شيء؛ فالرب سبحانه وتعالى لم يزل ولا يزال يفعل ما يشاء ويتكلم إذا شاء قال تعالى: {كَذَلِكَ اللّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [آل عمران:40]، وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة:253]، وقال تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ* فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج:15 - 16]، وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقلأمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [لقمان:27]، وقال تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف:109] ().
رابعاً: إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد قرر في أكثر من موضع من كتبه ورسائله أن الله كان ولم يكن شيء قبله, ولم يكن شيء معه سبحانه وتعالى, وأن هذا العالم حادث وكائن من العدم, وأن الله خلقه بعد أن كان معدوماً, ورد على الفلاسفة الذين جعلوا هذا العالم لازماً لذات الله أزلاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: " المقصود هنا التنبيه على أنه لا حجة لهم تدل على قدم شيء من العالم ().
وقال: وهذا مما يتبين به بطلان قولهم في قدم العالم, ويتبين أن كل ما سوى الله تعالى حادث بعد أن لم يكن ().
وقال: وحينئذ فنعلم بالعقل الصريح أن العالم حادث كما أخبرت به الرسل مع أن الرب لم يزل ولا يزال متصفاً بصفات الكمال لم يصر قادراً بعد أن لم يكن, ولا متكلماً بعد أن لم يكن، ولا موصوفاً بأنه خالق فاعل بعد أن لم يكن. بل لم يزل موصوفاً بصفات الكمال المتضمنة لكماله في أقواله وأفعاله, وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع ().
¥