توضيح مسألة حوادث لا أول لها موجبة بالذات:
كان الناس في مسألة خلق العالم قبل ابن سينا على قسمين:
الأول: الذين يقولون بقدم العالم, وأنه لاخالق لهذا الكون والموجودات, وهم الدهريون والمشركون.
الثاني: الذين يقولون بإثبات الخالق, وأن هذا الكون مخلوق لله كائن بعد العدم.
فأحدث ابن سينا وقوم من متأخري الفلاسفة قولاً ثالثاً وهو أن العالم موجب بالذات أي لازم لذات الله لا ينفك عنه, وهذا الذي دندن حوله هذا المعترض في "كاشفه" (ص97). مع أنه لشيخ الإسلام الأقوال الكثيرة في رد هذا القول.
قال رحمه الله: وبهذا التحرير يزول الإشكال في هذه المسألة؛ فإن الموجب بذاته إذا كان أزلياً يقارنه موجبه فلو كان الرب تعالى موجباً بذاته للعالم في الأزل لكان كل ما في العالم مقارناً له في الأزل, وذلك ممتنع بل ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن فكل ما شاء الله وجوده من العالم؛ فإنه يجب وجوده بقدرته ومشيئته, وما لم يشأ يمتنع وجوده إذ لا يكون شيء إلا بقدرته ومشيئته وهذا يقتضي وجوب وجود ما شاء تعالى وجوده.
ولفظ الموجب بالذات فيه إجمال؛ فإن أريد به أنه يوجب ما يحدثه بمشيئته وقدرته فلا منافاة بين كونه فاعلا بالقدرة والاختيار؛ وبين كونه موجباً بالذات بهذا التفسير, وإن أريد بالموجب بالذات أنه يوجب شيئاً من الأشياء بذات مجردة عن القدرة والاختيار فهذا باطل ممتنع, وإن أريد أن علة تامة أزلية تستلزم معلولها الأزلى بحيث يكون من العالم ما هو قديم بقدمه لازم لذاته أزلاً وأبداً، الفلك أو غيره، فهذا أيضاً باطل.
فالموجب بالذات إذا فسر بما يقتضى قدم شيء من العالم مع الله أو فسر بما يقتضي سلب صفات الكمال عن الله فهو باطل, وإن فسر بما يقتضى أنه ما شاء كان , وما لم يشأ لم يكن فهو حق؛ فإن ما شاء وجوده فقد وجب وجوده بقدرته ومشيئته لكن لا يقتضي هذا أنه شاء شيئاً من المخلوقات بعينه في الأزل بل مشيئته لشيء معين في الأزل ممتنع لوجوه متعددة ().
18 - الرد على شبهة الحس والإحساس:
وهذه المسألة تنقسم إلى قسمين:
الأول: هل يمكن أن يدرك الله بالحواس, ويقصد بذلك أن الله يُرى ويُسمع كلامه, والذي حاول المعترض زوراً وبهتاناً إلزام شيخ الإسلام بالشم والذوق بالتضليل والتلبيس.
الثاني: هل توصف ذات الله بالإدراكات، أي هل نثبت لله بما يسمى في حق المخلوق حواساً كالسمع والبصر اليد, وهو ما جاء في الكتاب والسنة والتي عبر عنها أهل الكلام بالحواس.
والجواب عن ذلك من وجوه:
المسألة الأولى:
1 - إن الكذب مجانب الإيمان, وهذا المعترض لا يتورع من الكذب فهو يتهم شيخ الإسلام أنه يقول: يمكن أن يحس بالله بسائر الحواس الخمس السمع والبصر واللمس والشم والذوق هذا هو الأصل! كذا قال (ص51) من "كاشفه"، عامله الله بما يستحق.
2 - هذه الألفاظ كالجسم والحس واللمس والجوهر والعرض والحد والحيز ومثل هذه الألفاظ, والتي اضطر أهل السنة للتكلم فيها, والخوض في معانيها بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله سبب اضطرار أهل السنة للتكلم بهذه الألفاظ والمصطلحات التي هي مصطلحات أهل البدع من أهل الكلام.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: "وإذا كانت هذه الألفاظ مجملة فالمخاطب لهم إما أن يفصل, ويقول ما تريدون بهذه الألفاظ؛ فإن فسروها بالمعنى الذي يوافق القرآن قبلت, وإن فسروها بخلاف ذلك ردت, وإما أن يمتنع عن موافقتهم في التكلم بهذه الألفاظ نفيا وإثباتاً؛ فإن امتنع عن التكلم معهم فقد ينسبونه إلى العجز والانقطاع. وإن تكلم بها معهم نسبوه إلى أنه أطلق تلك الألفاظ التي تحتمل حقا وباطلا, وأوهموا الجهال باصطلاحهم أن إطلاق تلك الألفاظ يتناول المعاني الباطلة التي ينزه الله عنها ().
الأصل في هذه الألفاظ التي لم ترد في الكتاب والسنة على قاعدة أهل السنة أنها لا ترد ولا تثبت حتى يستفصل عن معناها؛ فإن أريد بها معنى حقا قبلت مع التوقف في اللفظ.
3 - سياق كلام شيخ الإسلام في مسألة هي يدرك الله بالحواس كما جاء في الفتاوى الكبرى (5/ 31)، في كتابه المسمى "بالتسعينية" والتي رد فيها على الأشاعرة, ومن نحا نحوهم ممن يقول بالكلام النفسي لما تحدث عن سبب ضلال جهم كما نقل عن الإمام أحمد ().
¥