تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

قال: فكان مما بلغنا من أمر جهم عدو الله أنه كان من أهل خراسان من أهل ترمذ, وكان صاحب خصومات وكلام, وكان أكثر كلامه في الله تبارك وتعالى، فلقي ناساً من المشركين يقال لهم السمنية فعرفوا الجهم.

فقالوا له: نكلمك فإن ظهرت حجتنا عليك دخلت في ديننا, وإن ظهرت حجتك علينا دخلنا في دينك، فكان مما كلموا به الجهم أن قالوا له: ألست تزعم أن لك إلها؟ قال الجهم: نعم. فقالوا له: فهل رأيت إلهك؟ قال: لا. فقالوا له: هل سمعت كلامه؟ قال: لا. قالوا: فشممت له رائحة؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له حساً؟ قال: لا. قالوا: فوجدت له مجسماً؟ قال: لا. قالوا: فما يدريك أنه إله؟ قال: فتحير الجهم فلم يدر من يعبد أربعين يوماً.

ثم استدرك حجة من جنس حجة الزنادقة من النصارى.

وذلك أن زنادقة النصارى يزعمون أن الروح التي في عيسى هي من روح الله من ذات الله, وإذا أراد الله أن يحدث أمراً دخل في بعض خلقه؛ فتكلم على لسان بعض خلقه فيأمر بما شاء وينهى عن ما شاء, وهو روح غائب عن الأبصار فاستدرك الجهم حجة مثل هذه الحجة.

فقال للسمني: ألست تزعم أن فيك روحاً. فقال: نعم. قال: فهل رأيت روحك؟ قال: لا. قال: فسمعت كلامه؟ قال: لا. قال: فوجدت له حساً؟ قال: لا. قال: فكذلك الله لا يرى له وجه ولا يسمع له صوت ولا يشم له رائحة, وهو غائب عن الأبصار ولا يكون في مكان دون مكان.

قال: ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه قوله: {ليس كمثله شيء}، {وهو الله في السموات وفي الأرض}، {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار}.

فبنى أصل كلامه كله على هذه الآيات, وتأول القرآن على غير تأويله, وكذب بأحاديث رسول الله ?, وزعم أن من وصف من الله شيئاً مما وصف الله به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله كان كافراً.

وكان من المشبهة وأضل بشراً كثيراً, وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة, ووضع دين الجهمية. وهكذا وصف العلماء حال جهم كما قال أبو عبد الله محمد بن سلام البيكندي شيخ البخاري في كتاب السنة والجماعة من تأليفه ().

ثم قال شيخ الإسلام بعد ذلك: "والجواب الذي أجاب به مبتدعة الصابئين, ومن اتبعهم من مبتدعة هذه الأمة باطل, وذلك أن قول القائل ما لا يحس به العبد لا يقر به أو ينكره أو أن يريد به أن كل أحد من العباد لا يقر إلا بما أحسه هو بشيء من حواسه الخمس أو يريد به أنه لا يقر العبد إلا بما أحس به العباد في الجملة أو بما يمكن الإحساس به في الجملة؛ فإن كان أرادوا الأول وهو الذي حكاه عنهم طائفة من أهل المقالات حيث ذكروا السمنية أنهم ينكرون من العلوم ما سوى الحسيات فينكرون المتواترات والمجربات والضروريات العقلية وغير ذلك، إلا أن هذه الحكاية لا تصح على إطلاقها عن جمع من العقلاء في مدينة أو قرية, وما ذكره من مناظرة الجهم لهم يدل على أقرارهم بغير ذلك.

وذلك أن حياة بني آدم وعيشهم في الدنيا لا يتم إلا بمعاونة بعضهم لبعض في الأقوال أخبارها وغير أخبارها وفي الأعمال أيضاً. فالرجل منهم لا بد أن يقر أنه مولود, وأن له أباً وطئ أمه وأماً ولدته, وهو لم يحس بشيء من ذلك من حواسه الخمس بل أخبر بذلك, ووجد في قلبه ميلاً إلى ما أخبر به. وكذلك علمه بسائر أقاربه من الأعمام والأخوال والأجداد وغير ذلك, وليس في بني آدم أمة تنكر الإقرار بهذا.

وكذلك لا ينكر أحد من بني آدم أنه ولد صغيراً, وأنه ربي بالتغذية والحضانة, ونحو ذلك حتى كبر, وهو إذا كبر لم يذكر إحساسه بذلك قبل تمييزه، بل لا يذكر طائفة من بني آدم أمورهم الباطنة مثل جوع أحدهم وشبعه ولذته وألمه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وغير ذلك مما لم يشعر به بحواسه الخمس الظاهرة. بل يعلمون أن غيرهم من بني آدم يصيبهم ذلك, وذلك مما لم يشعروا به بالحواس الخمس الظاهرة, وكذلك ليس في بني آدم من لا يقر بما كان في غير مدينتهم من المدائن والسير والمتاجر وغير ذلك مما هم متفقون على الإقرار به, وهم مضطرون إلى ذلك, وكذلك لا ينكرون أن الدور التي سكنوها قد بناها البناؤون, والطبيخ الذي يأكلونه طبخه الطباخون, والثياب المنسوجة التي يلبسها نسجها النساجون, وإن كان ما يقرون به من ذلك لم يحسه أحدهم بشيء من حواسه الخمس.

وهذا باب واسع فمن قال: إن أمة من الأمم تنكر هذه الأمور فقد قال الباطل.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير