ثم قال - رحمه الله - بعد ذلك: "والسمنية الذين ناظروا الجهم قد غالطوا الجهم, ولبسوا عليه في الجدال حيث أوهموه أن ما لا يحسه الإنسان بنفسه لا يقر به, وكأن الأصل أن ما لا يتصور الإحساس به لا يقر به، فكان حقه أن يستفسرهم عن قولهم ما لا يحسه الإنسان لا يقر به هل المراد به هذا أو هذا؟ فإن أراد أولئك المعنى الأول أمكن بيان فساد قولهم بوجوه كثيرة, وكان أهل بلدتهم وجميع بني آدم يرد عليهم ذلك. وإن أرادوا المعنى الثاني؛ وهو أن ما لا يمكن الإحساس به لا يقر به؛ فهذا لا يضر تسليمه لهم بل يسلم لهم يقال لهم؛ فإن الله تعالى تمكن رؤيته ويسمع كلامه.
بل قد سمع بعض البشر كلامه وهو موسى عليه السلام, وسوف يراه عباده في الآخرة، وليس من شرط كون الشيء موجوداً أن يحس به كل أحد في كل وقت أو أن يمكن إحساس كل أحد به في كل وقت؛ فإن أكثر الموجودات على خلاف ذلك. بل متى كان الإحساس به ممكناً ولو لبعض الناس في بعض الأوقات صح القول بأنه يمكن الإحساس به, وقد قال تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إلاّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى:51].
وهذا هو الأصل الذي ضل به جهم وشيعته حيث زعموا أن الله لا يمكن أن يرى ولا يحس به بشيء من الحواس كما أجاب إمامهم الأول السمنية بإمكان وجود موجود لا يمكن إحساسه.
ولهذا كان أهل الإثبات قاطبة متكلموهم وغير متكلميهم على نقض هذا الأصل الذي بناه الجهمية, وأثبتوا ما جاء به الكتاب والسنة من أن الله يرى ويسمع كلامه وغير ذلك، وأثبتوا أيضاً بالمقاييس العقلية أن الرؤيا يجوز تعلقها بكل موجود؛ فيصح إحساس كل موجود؛ فما لا يمكن إحساسه يكون معدوماً, ومنهم من طرد ذلك في اللمس, ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم ().
قارن بهذا السياق الطويل الذي سقته من كلام شيخ الإسلام, وبين اقتطاعه كلام شيخ الإسلام وتشويش القاريء والتلبيس عليه, ووضع اللوازم الباطلة لكلام شيخ الإسلام والتفسيرات المنفرة التي توقع القاريء في المتاهات.
شيخ الإسلام أورد هذا الكلام وتكلم بمصطلحات القوم في مسألة الحواس, وقرر رحمه الله مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يرى في الآخرة, وأنه يسمع كلامه كما مر معنا تقريره.
حاول أن يلصق المعترض بابن تيمية رحمه الله مسألة أنه يمكن أن يحس الله باللمس والذوق والشم، مع أن شيخ الإسلام ليس كلامه موضع تقرير لمذهب أهل السنة, وإنما هو ناقل لأقوال الطوائف والفرق.
وإليك تعليق هذا المعترض الذي نسأل الله أن يعامله بما يستحق عند قول شيخ الإسلام: ومنهم من طرد ذاك في اللمس.
قال: من أهل الإثبات أي المجسمة من قال: إن الله يلمس ويُلمس إن الله يلمسنا ونحن نلمسه فاستمع واستمع, وهذا القول هو الذي يقول به ابن تيمية كما سوف يظهر لك من خلال مباحث هذا الكتاب ثم قال: ومنهم من طرده في سائر الحواس كما فعله طائفة من متكلمة الصفاتية الأشعرية وغيرهم ().
ثم قال المعترض: أما نسبته هذا القول إلى طائفة من الأشعرية فهي كذب عليهم.
قلت: وفي كلامه كذب ظاهر فأين التزم شيخ الإسلام رحمه الله بالمس وأين قرره في مسألة الذوق والشم. وأما تكذيبه نسبة ذلك إلى الأشاعرة فهذا من جهله أو تجاهله بمذهبه.
قال البيجوري (ص122) ناقلاً الخلاف بين علماء الأشاعرة هل يدرك الله؟: "وقد اختلف أيضاً في كونه مُدركاً أولاً تبعاً للاختلاف في الإدراك"!
المسألة الثانية:
هل يوصف الله بالإدراكات الخمس؟
هذه المسألة شبيهة بالمسألة الأولى فلفظ الحواس لفظ مجمل، والأصل أن يستفصل عن معناه, وقرر رحمه الله إثبات السمع والبصر التي ورد في إثباتها الكتاب والسنة ولم يلتزم غير ذلك كما فعلت الأشاعرة ().
إن الأشاعرة أثبتوا الإدراكات لله بما لم يرد في الكتاب والسنة.
¥