قال شيخ الإسلام: والمعتزلة استطالوا على الأشعرية ونحوهم من المثبتين للصفات والقدر بما وافقوهم عليه من نفي الأفعال القائمة بالله تعالى؛ فنقضوا بذلك أصلهم الذي استدلوا به عليهم في أن كلام الله غير مخلوق, وأن الكلام وغيره من الأمور إذا خلق بمحل عاد حكمه على ذلك المحل، واستطالوا عليهم بذلك في مسألة القدر واضطروهم إلى أن جعلوا نفس ما يفعله العبد من القبيح فعلاً لله رب العالمين دون العبد، ثم أثبتوا كسباً لا حقيقة له؛ فإنه لا يعقل من حيث تعلق القدرة بالمقدور فرق بين الكسب والفعل, ولهذا صار الناس يسخرون بمن قال هذا ويقولون ثلاثة أشياء لا حقيقة لها: طفرة النظام، وأحوال أبى هاشم، وكسب الأشعري.
واضطروهم إلى أن فسروا تأثير القدرة في المقدور بمجرد الاقتران العادي والاقتران العادي يقع بين كل ملزوم ولازمه ويقع بين المقدر والقدرة؛ فليس جعل هذا مؤثرا في هذا بأولى من العكس ويقع بين المعلول وعلته المنفصلة عنه مع أن قدرة العباد عنده لا تتجاوز محلها, ولهذا فر القاضي أبو بكر إلى قول وأبو اسحق الإسفرائيني إلى قول وأبو المعالي الجويني إلى قول لما رأوا ما في هذا القول من التناقض والكلام على هذا مبسوط في موضعه ().
23 - قرر (ص65) من "السنوسية": ويستحيل على الله أن يتصف بالأغراض في الأفعال أو الأحكام، والأغراض جمع غرض وهو الباعث لمراعاة المصالح ودفع المفاسد.
قلت: أرادوا بذلك نفي الحكمة عن أفعال الله.
قال ابن القيم لما ذكر الأسباب التي تحمل النفوس الجاهلة قبول التأويل: السبب الثاني: أن يخرج المعنى الذي يريد إبطاله بالتأويل في صورة مستهجنة تنفر عنها القلوب, وتنبوا عنها الأسماع؛ فيتخير له من الألفاظ أكرهها وأبعدها وصولاً إلى القلوب وأشدها نفرة؛ فكذلك أهل البدع والضلال من جميع الطوائف هذا معظم ما ينفرون به عن الحق ويدعون به إلى الباطل.
قلت: ومن ذلك أنهم يسمون حكمته غرضاً (). ولذلك قالوا في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56]}، قالوا: اللام تسمى لام العاقبة ولا تسمى لام التعليل ().
قال ابن القيم رحمه الله: وقد أثنى على عباده المؤمنين حيث نزهوه عن إيجاد الخلق لا لشيء ولا لغاية فقال تعالى: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران:191]. وأخبر أن هذا ظن أعدائه لا ظن أوليائه فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاء وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص:27]، وكيف يتوهم أنه عرفه من يقول أنه لم يخلق لحكمة مطلوبة له, ولا أمر لحكمة ولا نهى لحكمة, وإنما يصدر الخلق والأمر عن مشيئة وقدرة محضة لا لحكمة ولا لغاية مقصودة, وهل هذا إلا إنكار لحقيقة حمده بل الخلق والأمر إنما قام بالحكم والغايات فهما مظهران بحمده وحكمته؛ فإنكار الحكمة إنكار لحقيقة خلقه وأمره؛ فإن الذي أثبته المنكرون من ذلك ينزه عنه الرب ويتعالى عن نسبته إليه فإنهم أثبتوا خلقاً وأمراً لا رحمة فيه ولا مصلحة ولا حكمة، بل يجوز عندهم أو يقع أن يأمر بما لا مصلحة للمكلف فيه البتة وينهى عما فيه مصلحة والجميع بالنسبة إليه سواء، ويجوز عندهم أن يأمر بكل ما نهى عنه وينهى عن جميع ما أمر به, ولا فرق بين هذا وهذا إلا لمجرد الأمر والنهي, ويجوز عندهم أن يعذب من لم يعصه طرفة عين بل أفنى عمره في طاعته وشكره وذكره، وينعم على من لم يطعه طرفة عين بل أفنى عمره في الكفر به والشرك والظلم والفجور (). فلا سبيل إلى أن يعرف خلاف ذلك منه إلا بخبر الرسول, وإلا فهو جائز عليه, وهذا من أقبح الظن وأسوأه بالرب سبحانه وتنزيهه عنه كتنزيهه عن الظلم والجور بل هذا هو عين الظلم الذي يتعالى الله عنه.
والعجب العجاب أن كثيراً من أرباب هذا المذهب ينزهونه عما وصف به نفسه من صفات الكمال ونعوت الجلال، ويزعمون أن إثباتها تجسيم وتشبيه ولا ينزهونه عن هذا الظلم والجور, ويزعمون أنه عدل وحق وأن التوحيد عندهم لا يتم إلا به كما لا يتم إلا بإنكار استوائه على عرشه وعلوه فوق سماواته، وتكلمه وتكليمه، وصفات كماله فلا يتم التوحيد عند هذه الطائفة إلا بهذا النفي وذلك الإثبات والله ولي التوفيق ().
¥