ومن العلوم التي طبقوا عليها هذه الدعوى علم أصول الفقه , فقد ذكر كثير ممن أراد أن يجدد في علم أصول الفقه أن بعض قواعده وأصوله وضعت بناءا على رغبات سياسية عند واضعيها , ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكره بعضهم أن الشافعي إنما قرر حجية السنة لغرض سياسي , وفي هذا يقول حمادي ذويب:" إن اعتماد الإجماع أصلا نظريا يؤسس , يرسخ الفعل الأيديولوجي الذي يختفي وراء التأصيل الديني لحجية السنة التي دشنها الشافعي أصبحت من المسلمات البديهية بالرغم من أنها ظهرت نتيجة مقتضيات تاريخية اتسمت بالصراع المذهبي والسياسي والديني ... " (24) , ويقول أيضا:" إن تأسيس حجية السنة يهدف بالأساس إلى احتكار ذروة السيادة والمشروعية العليا " (25) , ومن الأمثلة على ذلك: الزعم بأن القول بحجية الإجماع السكوتي إنما قيل به بناءا على ضغوط سياسية ,وفي هذا يقول طه جابر العلواني:" لم تعرف أمة من الأمم فيما أعلم هذا الذي يسمى بالإجماع السكوتي كدليل أو جزء من أجزاء الإجماع , ...... بعض الحكام كانوا حينما يريدون أن يعطوا المشروعية يدعون الفقهاء وآخرين في قصر السلطان , فيقوم قاضي القضاة بعد التشاور فيقول الأصل كذا , مع ذكر الدليل , والآخرون لا يستطيعون المعارضة , فقالوا هناك دليل يسمى بالإجماع السكوتي " (26) , ومن الأمثلة على ذلك أيضا: ما ذكره نصر حامد أبو زيد عن الشروط التي وضعها الشافعي للقياس من أنها لا تخلو من مغزى سياسي (27) , ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره قطب سانو من أن بعض أصول الفقه قد تأثر بالظروف السياسية عند من وضعها , وفي هذا يقول عن دراسته التي قدمها عن أصول الفقه: " هذه الدراسة تدعو 00 إلى مراجعة جملةٍ من المناهج الأصولية التي لم تخلُ من تأثرفي نشأتها بالظروف السياسية والفكرية والاجتماعية، كالقياس، الاستحسان، سدُّالذرائع، شرع من قبلنا، والمصالح المرسلة ... إلخ، فهذه القواعد وغيرها بحاجة إلىمراجعة نوعيَّةٍ تجعلها أكثر تفاعلاً مع الواقع المعيش،" (28)
فهذه التطبيقات وغيرها مما لم يذكر , وما سيطبقونه في المستقبل , إذا اعتبرت في مجموعها لا شك أنها تكون عدادا كبيرا لو اعتبر وأخذ به , فإنه يدل بمجموعه على ظاهرة خطيرة في الفكر الإسلامي وهي: أن علماء وأئمة الإسلام لم يكن من همهم إلا أنهم ينظرون إلى ما يريده الحاكم من رأي حتى يضفوا عليه الشرعية الدينية التي كانت بأيديهم , فلم يكن من همهم إلا إرضاء السلطة الحاكمة لا تبليغ الأمانة التي تحملوها.
والمقصود هنا: هو إثبات وجود هذه الدعوى , وأنها قد استعملت في نقد وتجاوز كثير من الأصول والقواعد العلمية التي أصلها الأئمة والعلماء.
والتركيز من هؤلاء على هذا التأثر وادعاء وجوده عند الأئمة هو في الحقيقة طريق ووسيلة من وسائلهم إلى التخلص من سلطة السلف كما يقولون , وهذه السلطة يرون أن الفكر الإسلامي قد قيد بها بلا دليل ولا مبرر , ويرون أنها عقبة في طريق التقدم والتجديد في العقل الإسلامي , وأنها دعوة للاغتراب الزماني ومجاوزة التاريخية والتعالي على الظروف الزمانية , وكلامهم في التحقير من اعتبار فهم السلف والدعوة إلى الرجوع إليه في بحوثهم كثير جدا.
والمحصل هنا: أنهم أرادوا التخلص من سلطة السلف فكان لا بد لهم من وسيلة يتخلصون بها من هذه السلطة , وقد اختلفت وسائلهم في الحدة والمواجهة والصراحة وعدم الصراحة , فمن وسائلهم ما هو حاد في الاتهام والمواجهة , ومنها ما هو هادئ في نقد هذه السلطة ووجوب مجاوزتها , ومنها ما هو صريح في النقد ومنها ما هو ليس كذلك , ومن هذه الوسائل: قولهم إن هذه القواعد والأصول كتبت في ظروف خاصة فلا يجوز مجازتها إلى ظروف أخرى مغايرة لها , ومنها قولهم:إنه قد استجدت مناهج أخرى في البحث العلمي فلا بد من التفاعل معها واستثمارها , ومنها: الارتكاز على باب الاجتهاد وفتحه بالكلية, وأن الأئمة رجال وهم رجال , ومنها: التوجه إلى اتهام الأئمة بالجهل أو التشدد , ومنها محاولة إيجاد مستندات لدعواهم من أقوال الأئمة , ومن ذلك عبارة " تغير الفتوى بتغير الزمن " , ومن ذلك أيضا اعتبار الأئمة لأسباب النزول , ومن وسائلهم: تشويه صورة الأئمة بكونهم عملاء للسلطة الحاكمة , ومنها: تشويه قول من دعى إلى اعتبار فهم السلف بأنه يجعل فهم السلف
¥