والثاني: طريق تفصيلي ويقصد به: الوقوف على كل مثال ذكروا أنه فيه أثرا للرغبات السياسية ومناقشته.
والذي سنذكره من الأوجه في هذه المناقشة هو من الطريق الإجمالي فقط , ولن يذكر شيء من التفاصيل إلا من باب التوضيح لما هو مجمل , والسبب في هذا الاقتصار هو إرادة الاختصار من جهة ولأن بطلان الأصل يوجب بطلان الفرع كما هو معلوم.
إذا تقرر هذا فهذه الدعوى يمكن أن تناقش من سبعة أوجه:
الوجه الأول: أن يقال: لا شك أن للوضع السياسي حسنا وسوءا , واستقرارا واضطرابا , تأثيرا على الحالة العلمية والفكرية المزامنة لها , فإن الحالة السياسية إذا كانت مستقرة وخالية من الاضطرابات بين القوى السياسية , فإن العلوم تزدهر وتنج وتتوسع , وقد ذكر ابن خلدون أن حالة العلم والتعلم تابعة لحالة العمران وتوسعه , فكلما توسع العمران واستقرت الحال كلما زادة حالة العلم حسنا , وذلك أن العلم صناعة من الصنائع والصناعة مرتبطة بالحالة السياسية واستقرارها (30).
وقد يكون للاضطرابات السياسية أثر في الحالة العلمية , من جهة أنه في هذه الحالة يثار البحث في بعض المسائل العلمية التي لم تبحث في حالة الرخاء لأنه لم يوجد ما يثيرها.
ومن صور تأثر العلم بالحالة السياسية: ما يتعلق بالولاة واهتماماتهم بالعلم والتعلم , فإن الوالي كلما قرب من العلم والعلماء كلما ازداد إمكان أن يؤثر في حالة العلم في زمنه وهذا التأثير له صور:
ومن صور ذلك: أن يكون للوالي اهتمام بعلم خاص فيزداد حرصه على هذا العلم فيقرب أهله ويدعم نشره , وهذا ما حصل من المأمون لما اهتم بكتب الأوائل ونشرها في الأمة , وكذلك لما اهتم الموحدون بكتاب الإحياء للغزالي بعدما أحرق في الأندلس حفظوا نسخه ودعموا نشره (31).
ومن صور تأثر الحالة العلمية بحالة الولاة: أن يدعم الوالي مذهبا معينا أو علما معينا ويعتمده في الدولة , فهذا الدعم والاعتماد لا بد أن يكون له أثر في انتشار العلم بين الناس , وادعى إلى ازدهاره ونضجه.
ومن صور ذلك أيضا: أن بعض الولاة قد يدعم أو يعتنق مذهبا معينا من باب المضاهاة لأعدائه من الولاة الآخرين , ولهذا يذكر صاحب الفكر السامي أن الخلفاء الثلاثة –وهم العباسي في بغداد والفاطمي في القاهرة والأموي في الأندلس – كل واحد منهم انتحل مذهبا يخالف مذهب غيره من باب المضاهاة له , فالفاطمي انتحل المذهب الجعفري الشيعي ونشروه في مصر واعتمدوه في القضاء الأنكحة المعاملات , والعباسي اهتم بالمذهب الحنفي والشافعي كذلك , والأموي اهتم بالمذهب المالكي في شؤون الحياة هناك (32).
والحاصل مما سبق: أن الحالة العلمية لابد أن تتأثر بزمنها التي كانت فيه , والبحث ليس في إثبات أصل التأثر بين الحالة السياسية والحالة العلمية , وإنما في حقيقة هذا التأثر وطبيعته , فإنه يمكن أن يقال إن عبارة " تأثير الحالة السياسة في العلم" عبارة مجملة تحتمل عدة معاني بعضها صحيح وبعضها باطل:
1 - فإن قصد بالتأثر إحدى الصور التي سبق ذكرها هذا صحيح لا ينكر.
2 - وإن قصد أن الأئمة قد استغلوا السلطة في فرض قولهم على المخالفين لهم , فإطلاق هذا القول ليس صحيحا لأمرين: الأول: أن الأئمة ليسوا في حاجة لأن يستعملوا القوة في نشر قولهم , لأن قولهم هو الأصل الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم , وأصحابه , والأمة من بعدهم , وإنما استعملوا القوة في مواجهة بعض الأفكار أو الدعاة إليها , من باب دفع المفسدة عن اعتقادات الناس ودينهم , ومع هذا فلم يستعملوا القوة إلا في مواجهة الغلاة الباغين على الفكر الإسلامي في زمنهم , وهذا من باب تعيير المنكر باليد لمن قدر عليه , والأمر الثاني: على فرض أن الأئمة قد استعملوا القوة السياسية في نشر مذهبهم فإن هذا ليس خاصا بهم فكثير من المذاهب والأفكار الطارئة قد نشرها أًصحابها بالقوة , واستغلوا السلطة الموافقة لهم في فرض ما يريدون , والأمثلة على هذا كثيرة , ومنها: ما فعله المعتزلة في فرض قولهم بخلق القرآن على الناس بقوة السلطة الحاكمة , ومن ذلك: أن أصحاب المذهب الأشعري استغلوا نفوذهم في الدولة العباسية في محاكمة كل من خالف مذهبهم ورد عليه كما فعلوا مع ابن تيمية وغيره من العلماء , وكذلك التشيع: قد استعمل السلطة لما كانت بيده في فترات متعددة
¥