مصادر الأفكار الأصلية , فكثيرا ما يعتمدون على المصادر الثانوية أو على كتب المستشرقين , ومنها: التكلف في وضع المصطلحات الجديدة والخاصة بكل كاتب منهم مما يؤدي إلى ضبابية المراد منها , أو إلى انقسام العلوم إلى خصوصيات معينة , ومنها: المصادرة على المطلوب في كثير من البحوث , هذه بعض الأوصاف التي اتصفت بها بحوث كثير من هؤلاء وهناك أوصاف أخرى مذكورة في مواطنها (36).
والمقصود هنا: الكلام على وصف واحد من هذه الأوصاف وهو عدم ذكر الأدلة على ما يذكرون من دعاوى , وهذا الوصف ظاهر في كثير من بحوثهم وكتاباتهم , وهو في الحقيقة يدل على أزمة في البحث العلمي في الفكر الإسلامي إذ كيف تذكر فيه الأحكام والدعاوى غير البديهية , ويشيع قبولها من غير ذكر لدليلها الذي يدل على صحتها.
وفي الحقيقة: فإن ذكر هذه الدعاوى غير البديهية في البحوث العلمية النقدية التجديدية , من غير دليل يدل على صدقها فيه خيانة دينية , وخيانة علمية , وعدم اعتبار لعقول الآخرين , أما كونه فيه خيانة دينية فكيف يحق لمسلم يريد التجديد في دينه أن يطلق مثل هذه الأحكام والدعاوى غير البديهية على فكر أمته ودينه , وهو يريد بذلك إصلاح هذا الفكر الممثل لدينه , ثم لا يذكر ما يدل على صحة ما يدعيه, فكيف يطلق صفة الدينية على دعواه ولم يذكر ما يدل على ذلك , وأما كونها خيانة فكرية , فمن المعلوم أن البحوث العلمية ترقى ويعلو شأنها بجدية أهلها وانضباطهم في أقوالهم وعباراتهم ونتائجهم , فأي جدية في إطلاق الدعاوى من غير دليل , وأي إشغال للفكر بمثل هذه الأحكام المجردة عما يدل على صدقها , فمتى ما كان الباحث مطلق القلم يطلق ما يريد على ما يريد من غير اهتمام منه بإثبات صحة ما أطلقه , فهو في الحقيقة خائن لهذا الفكر الذي أثقله بدعاواه , وأشغل أهله عما هو أنفع لهذا الفكر وأصلح له , وأما أن فيه عدم اعتبار لعقول الآخرين , فكيف أدعي شيئا غير بديهي ثم أتطلب تصديقه من غير دليل , فأي مصادرة لعقول القراء أكبر من أن أدعي صحة شيء أطلب منهم تصديقه , ثم لا أذكر ما يدل على صحته , وكيف أطلق على طائفة من الباحثين أو أصف علما من العلوم بوصف فيه اتهام وتنقص من مكانته, ثم أطلب منهم قبوله من غير أن أذكر دليلا يدل على صحة الدعوى , هذا مما لا يقبله أي عاقل فضلا عن العلماء والباحثين عن الحقيقة الصادقة.
والمقصود هنا: أن هذه الدعوى التي ادعوها لم يذكروا دليلا يدل على صحتها فلا يمكن أن تقبل منهم هكذا مجردة عن الدليل.
ومن الطرق النافعة في رد مثل هذه الدعاوى التي تذكر من دون دليل المعارضة بالمثل , فيقال: إن قولهم بإثبات تأثير السياسة في هذه القواعد التي ذكرها الأئمة ليس أولى بالقبول من القول بعدم التأثير , لو فرض خلو هذا الكلام مما يدل على صحته , بل يمكن أن يقال إن القول بالنفي أولى بالقبول لأنه باق على الأصل.
الوجه الثالث: أن هذه الدعوى في حقيقتها اتهام للائمة بالعمالة للسلطة الحاكمة , وأن الأئمة كانوا يمارسون ما يسمى النفاق الفكري , وهذا ما صرح بعضهم كما سبق نقله , فالأئمة على مقتضى هذه الدعوى مجرد آلة في أيدي الولاة يستعملونها في تسويغ أفعالهم الظالمة , وهذا الكلام من أعظم ما يتهم به علماء الأمة , فأي اتهام أعظم من أن يتهم العالم في دينه الذي أتمن عليه.
وهذا الاتهام لأئمة الإسلام باطل لا يصح وهو قول من لا يعرف التاريخ ولا السير , ولهذا قال مصطفي السباعي لما ذكر طعن جولد تسهير في الأئمة بأنهم كانوا يضعون الأحاديث للولاة:" هو قول من لم يصل ولن يصل إلى مدى السمو الذي يتصف به علماؤنا الأثبات , ولا المدى الذي وصلوا إليه في الترفع عن الكذب حتى في حياتهم العادية , ولا مبلغ الخوف الذي استقر في نفوسهم بجنب الله خشيةَ ورهبةَ , ولا مدى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم , حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك وقتله وعدم قبول توبته , إن هذا المستشرق لم يفهم عن علمائنا هذه الخصائص , لأنه لا يجد لها ظلا في نفسه ولا فيما حول , ومن اعتاد الكذب ظن في الناس أنهم أكذب منه , واللص يظن كل الناس لصوصا مثله .... وإلا فمن الذي تعرض للضرب الإهانة والتنكيل , حتى لا يبايع بيعتين في وقت واحد فيخالف بذلك سنة رسول الله صلى اله عليه وسلم
¥