الوجه الخامس: أن الأئمة أنكروا على من أفتى بعض الولاة بخلاف مقتضى النصوص الشرعية عقوبة منه للوالي , والقصة المشهورة في ذلك:قصة من أفتى الوالي الذي جامع امرأته في رمضان بصيام شهرين مباشرة , من غير أن يذكر له الإطعام , ولما سئل عن ذلك ذكر أنه أراد زجره (44) , فأنكر عليه من جاء بعده من العلماء وحكموا على فتواه بالبطلان , لأنها مخالفة لمقتضى النصوص , والعبرة في الشرع بما تدل عليه النصوص لا بحال السلاطين موافقة أو مخالفة , ولهذا علق الجويني على هذه القصة فقال:" إن صح هذا من معتز من العلماء , فقد كذب على دين الله وافترى , وظلم نفسه واعتدى .........
ولو ذهبنا نكذب الملوك ونطبق أجوبة مسائلهم على حسب استصلاحهم طلبا لما نظنه من فلاحهم لغيرنا دين الله تعالى بالرأي , ثم لم نتق بتحصيل صلاح وتحقيق نجاح .... " (45) , وممن نص على خطأ هذه الفتوى الشاطبي في الموافقات (46).
الوجه السادس: أن يقال: إن تصوير ولاة المسلمين وخاصة بني أمية وبني العباس , بأنهم متسلطون على دين الله وعلى العلماء , وأنهم مارسوا ضغوطا على العلماء حتى يشرعوا لأفعالهم أمر مخالف للواقع , فإن هؤلاء الأئمة لم يبلغوا من الجرأة على دين الله حتى يجعلوا أقوالهم مقدمة عليه على أنها شرع إلهي , ومع هذا فهم ليسوا سواء , فمنهم من كان معظما لدين الله وشرعه , ومحبا للعلم والعلماء , ومنهم من لم يكن كذلك , بل كانت عنده مخالفات كبيرة للدين , والبحث ليس في كون هؤلاء الولاة ملتزمين بالدين على وجه الكمال أو لا , وإنما البحث في كونهم تسلطوا على دين الله وعلى العلماء وفرضوا عليهم ما يوافق أهواءهم حتى يضفوا عليه الشرعية الدينية , هذا ما لم يثبت عنهم , بل الثابت عنهم عكس ذلك , من الحرص على نشر دين الله وخدمته , والغضب لأي محاولة لتغييره , وأخبار هؤلاء الولاة وما عندهم من علم وحرص على دين الله كثيرة متنوعة , فقد ذكر المؤرخون عن نسك عبد الملك بن مروان وتقواه قبل الخلافة ما جعل الناس يلقبونه بحمامة المجسد , وقد أثنى ابن عمر وغيره على عبد الملك في علمه (47) , ولهذا يقول ابن خلدون:" خلفاء بني أمية وإن كانوا ملوكا فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي , وإنما كانوا متحرين لمقاصد الحق لديهم , إلا في ضرورة تحملهم على بعضها , مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل قصد , يشهد لذلك ما كانوا عليه من الإتباع والاقتداء , وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم , فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك ...... " (48) , وقد ذكر ابن تيمية أن أعظم ما نقمه الناس على بني أمية أمران: أحدهما: تكلمهم في علي , والثاني: تأخير الصلاة عن وقتها (49) , فلو كان من أفعال نبي أمية أو بني العباس تغيير شرع الله أو ممارسة الاضطهاد على العلماء ليضعوا لهم ما يريدون من القواعد لذكره الناس فيما اخذ عليهم.
والمقصود هنا: أن ولاة المسلمين من بني أمية أو العباس لم يصلوا إلى درجة أن يغيروا من شرع الله , أو أن يحرفوا شرع الله على ما يوافق أهواءهم , وإن كان بعضهم قد وقع في مخالفات شرعية كثيرة.
الوجه السابع: أن يقال: إنا لا ننكر وجود من كان يراعي رغبات الملوك ويقدمه على شرع الله , ويضع لهم الأحاديث والأخبار , ويؤلف لهم الكتب التي توافق أهواءهم , فإن هذا الحال قد وجد في التاريخ ولا ينكر , ومن الأمثلة على ذلك: قصة غياث بن إبراهيم مع الخليفة المهدي العباسي لما رآه يلعب بالحمام فحدثه بحديث أبي هريرة:" لا سبق إلا في خف أو حافر " وزاد فيه " أو جناح " فأمر له المهدي بعشرة الآف درهم , فلما ولى قال المهدي: أشهد أن قفاك قفا كذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم (50) , ومن الأمثلة على ذلك: ما ذكر عن سبط ابن الجوزي فإنه كان يؤلف على حسب أهواء الناس , وفي هذا يقول ابن تيمية عنه:" كان يصنف بحسب مقاصد الناس , يصنف للشيعة ما يناسبهم ليعوضوه بذلك , ويصنف على مذهب أبي حنيفة لبعض الملوك لينال بذلك أغراضه " (51).
¥