هذا، والإحسان لا يقال عنه: إنه ركن من أركان الدين؛ لأنه لو كان ركنا لوجب على جميع المسلمين أن يأتوا به، وإلا لم يصح دينهم، كأركان الصلاة لا تصح بدونها، والحال: أن أكثر المسلمين يعجزون عن هذه المرتبة. والذين يطيقونها هم القلة؛ ولأجل هذا فهو مستحب لا واجب، للرحمة الإلهية في عدم تحميل الأنفس ما لا تطيق، فالمقامات العالية لا تجب، بل تستحب، إنما الواجب ما كان حدا أدنى في الدين؛ كونه في مكنة الجميع. وعليه فالصحيح أن يقال: إن الإحسان هو المرتبة الثالثة من مراتب الدين، وهو فوق الإسلام والإيمان. وفرق بين كونه مرتبة، وكونه ركنا.
* * *
السؤال الثالث: يتضح من تقريرك السابق أن التصوف مذهب باطل، فهل المتصوفة يقرون بهذا؟. (هذه الجملة: [فهل المتصوفة يقرون بهذا]. حذفت من السؤال، فأفقده انسجامه مع جوابه).
ليس الإقرار من جهة أن التصوف منحرف، بل من جهة أنه موجود في المتصوفة، ودليل ذلك: أن بعضا منهم يعلن البراءة من الانحراف والغلو، والتمسك بالاعتدال والسنة.
فهذه البراءة دليلُ إثباتٍ على: أن هذا المسلك المنحرف وجد فيهم. ثم بعد ذلك البحث: إن كان انحرافا أصيلا أصليا، أو طارئا. والدلائل الواضحة تشير إلى: أنه انحراف في بنية الفكر الصوفي.
* * *
السؤال الرابع: إذا كانوا يتبرءون منه، أفليس من العدل قبول براءتهم، وتبرئة التصوف من هذا الانحراف، كما أننا نتبرء نحن المسلمون من أعمال بعض المسلمين المنحرفين، ونعلن أنها ليست من الإسلام في شيء، خصوصا وأن أئمتهم ذكروا وجوب التقيد في الطريقة بالكتاب والسنة؟.
بالعدل قامت السموات والأرض، لكن ليس من العدل في شيء: اعتماد براءة صورية غير حقيقية. فإن المسلك العام الذي عليه كثير من المتصوفة، المنكرين المتبرئين من الانحراف والغلو، الواقع في إطار التصوف: مسلك صوري لا حقيقي؛ بمعنى أن أنكارهم فارغ المضمون. يتبين ذلك من ثنائهم على أولئك الغالين المنحرفين، والتماس العذر لما صدر منهم، بل وتأويله تأويلا باطنيا، كما فعل الطوسي.
فإنك لو سألت: من هم الغالون المنحرفون، الذين تجب البراءة منهم؟.
فأقرب الأسماء إليك: الحلاج، وابن عربي. فانظر إلى هؤلاء المنكرين الانحراف: ماذا يقولون عنهما؟.
إنهم يترحمون عليهما، وينسبونهما إلى المقامات العالية، ويستشهدون بكلامهم، كما فعل القشيري والهجويري والطوسي مع الحلاج، ويقولون عن ألفاظهم المنحرفة: إنها كلمات دقيقة، ولدقتها حملها أهل الظاهر على غير وجهها، فضلوا. يقولون ذلك عن ابن عربي، منذ القديم وإلى اليوم، وهو الذي سبق نقل شيء من كلامه شعرا في الاتحاد ما بين العبد والرب جل شأنه، وله كلام شنيع للغاية، لا أظن أحدا من الكافرين سبقه إلى مثله، موجود في فصوص الحكم، أتحرج من نقله لقبحه ووضاعته.
فإذا كانوا يعظمون المنحرفين، فهل من العدل الثقة في هذه البراءة، وتبرئة التصوف من الانحراف؟.
بل موقف كهذا فيه الإشارة إلى أن هذا الانحراف هو في بنية التصوف، لا ينفك عنه.
أما عن أقوال أئمة التصوف في وجوب التقيد بالكتاب والسنة، فهذا صحيح عنهم، ويبقى إظهار هذا التقيد بصورة عملية واضحة، لتحقيق هذه الوصايا، خصوصا فيما يتعلق بتوحيد الله تعالى وإفراده وحده بالطاعة والعبادة دعوة وتبليغا،
[وإنكارا على الغالين في القبور تحت دعوى: التبرك، والتوسل بأصحابها، والشفاعة. وإنما حقيقتها دعاء غير الله تعالى. فإن من أهم ما جاءت به الشريعة:
- أن الله تعالى ليس كمثله شيء في: ذاته، وصفاته، وأفعاله. فله من الخصائص ما ليس لغيره.
- وأن من خصائصه: التدبير، والتصريف، وعلم الغيب، وإجابة الدعاء، وإفراده بالعبادة.
- وأن من الضلالة نسبة شيء من هذه الخصائص إلى المخلوق، فذلك يفضي إلى تشبيهه بالخالق.
فما يحدث عند القبور، من بعض المتصوفة، أمر ينافي توحيد الله تعالى، وليس فيه تقيد بالشريعة. والسكوت عن هذه المخالفات الجلية معارضة صريحة للكتاب والسنة. يقول تعالى:
{ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين}.] (هذا المقطع حذف بالكامل).
* * *
السؤال الخامس: فهل تريد القول إن المتصوفة كلهم منحرفون غلاة، وأن المعتدل منهم ظاهره كذلك، وباطنه الغلو؟.
¥