ما سبق كان بيانا لحقيقة الفكرة الصوفية، ظهرت من خلال دراسة أقوال وأحوال المتصوفة، فكانت النتيجة تلك، أما حقيقة المتصوفة فذاك الأمر الذي يحتاج إلى بسط بيان؛ فالحكم على الفكرة بشيء لا يلزم منه الحكم ذاته على المنتسبين إليها. فمثل هذا اللزوم يحتاج إلى جملة شروط، ليست معرفة حقيقة الفكرة إلا إحداها، وأولها، ووراءها ثان، وثالث، ورابع. حتى تستتم الشروط.
وعليه: فالحكم بانحراف الفكرة لا يلزم منه أن كافة المتصوفة، أو عامتهم متحققون بالفكرة.
كلا، بل أكثرهم يأخذون الطرف ويدعون الأصل، ولو عرفوا حقيقة التصوف لما أقاموا عليه ساعة.
إن كثيرا من المتصوفة ما انتسبوا إلا يريدون التزكية وإصلاح الباطن، يظنون أن طريق القرب من الله تعالى هو هذا الطريق لا غير، وهم مثابون على نياتهم، وليس من العدل تضليلهم بمجرد هذه النسبة.
أما أن هناك من يظهر إنكار الغلو، وفي باطنه هو من أهل الغلو، فهذا موجود في المتصوفة، كما هو موجود في غيرهم، لكنهم قليل، والأصل أن عامة المتصوفة ليسوا كذلك.
* * *
السؤال السادس: فرقت بين الفكرة والمنتسبين إليها، وأنت إنما استقيت حقيقة الفكرة من هؤلاء المنتسبين، فكيف يسلم لك هذا التفريق، أليس الواجب أن يتحدا في الحكم؟.
الفكرة الصوفية تحددت معالمها في الثقافات القديمة، وبعد دراسة مقارنة تبين: أن كثيرا من أفكار المتصوفة المسلمين في الأصول موافقة لأصول التصوف في تلك الثقافات. مع انتمائهم إلى الإسلام.
وبهذا صرنا أمام مصدرين أخذ بهما المتصوفة: تصوف قديم، وشريعة إسلامية.
ومن هنا جاء التفريق، فالصوفي لا يصدر في كل ما يقول ويفعل عن نفَسَ واحد، سواء كان صوفيا أو إسلاميا، بل يخلط، فكان لا بد أولا من التمييز، منعا للخلط، وأداة التمييز هي: المقارنة. فما كان موافقا للتصوف القديم، فهذا تصوف. وما كان موافقا للشريعة، فهذا من الإسلام.
وهكذا بان الفرق، فالفكرة الصوفية محددة، واحدة لا تختلف، أما الصوفي فيختلف عن ذلك، ليس فكرة محددة، بل مزيج من فكرتين؛ وبهذا تعقدت شروط الحكم عليه، واختلفت عن شروط الحكم على الفكرة، فليس الحكم على الخالص كالحكم على المزيج، والحكم على الأفكار أسهل من الحكم على الأفراد.
* * *
السؤال السابع: قلت: إن التصوف معروف في الثقافات القديمة، ما دليلك على هذا؟.
التصوف مذهب معروف بهذا الاسم نفسه في الثقافات القديمة: الفارسية، والهندية، والكونفوشوسية، والإغريقية، واليهودية، والنصرانية. وهذا أمر يعرفه الباحثون في التصوف، ولا ينكرونه.
فهذا الاتفاق، بين كل هذه الثقافات، في إطلاق هذا الاسم (=التصوف) على هذا المذهب. ألا يدل على أنه أجنبي، وأن هذا المذهب عند المسلمين، ما هو إلا صدى وانعكاس لهذه المذاهب القديمة؛ إذ جاء متأخرا عنها؟.
وليس هذا فحسب، بل إن الدراسات أثبتت التوافق الظاهر في الأفكار ما بين التصوف في الإسلام، والتصوف في تلك الثقافات القديمة في أفكار أصلية، ليست فرعية، منها: الفناء، والتخلق بأخلاق الله تعالى، والحلول والاتحاد، ووحدة الوجود. وقد ذكر هذا من الباحثين القدماء، المورخ البيروني في كتابه: "تحقيق ما للهند"، ومن المعاصرين: عمرو فروخ، والنشار وغيرهما.
فالمتصوفة حملوا الأفكار الصوفية، الموجودة في الثقافات القديمة قبل الإسلام.
* * *
السؤال الثامن: وفق ما ذكرت، فهل نقول: لا أمل في الالتقاء بين المتصوفة وغير المتصوفة؟. (أعيد صياغة هذا السؤال فصار كما يلي: [ما نقاط الالتقاء بين المتصوفة وغيرهم من أهل المذاهب الأخرى؟]. وبهذا اختلف سياق الجواب عن سياق السؤال).
كلا، ليس هذا بصحيح، بل الصحيح أن يقال: الالتقاء متعذر بين التوحيد والوحدة، بين مذهب يقرر عبودية الإنسان ومذهب يقرر قدرة الإنسان على بلوغ مرتبة الربوبية. هكذا هي المعادلة.
أما المسلمون فبينهم التقاء يمليه عليه إسلامهم وتوحيدهم لله تعالى. وانتساب جمع من المسلمين إلى التصوف لا يخرجهم من أهل السنة والجماعة، وقد تكلم كثير من العلماء في التصوف نقدا ونقضا، ولم يتكلموا بشيء فيه إخراج المتصوفة من السنة.
فهم من أهل السنة والجماعة، إلا من تبنى حقيقة الفكرة؛ التي تجعل من الإنسان صورة عن الله تعالى، له كامل صفاته، وخصائصه، أو تقرب إلى مخلوق بما يتقرب به إلى الخالق تعالى.
¥