وفي صحيح مسلم، عن أبي موسى الأشعري، قال: قام فينا رسول الله – صلى الله عليه وسلم – فقال: ((إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعمل النهار قبل عمل الليل، حجابه النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)) ().
ومعلوم أن بصر الله تعالى لا ينتهي دون شيء، ولا يحول دونه شيء، فهو بكل شيء بصير، فلولا الحجاب الذي احتجب به لما بقي شيء من المخلوقات إلا ذاب واحترق، فكيف جاز لهؤلاء الذين جعلوا أقيستهم وعقولهم هي الحكم على ما يوصف الله – تعالى – به، وما يمتنع عليه.
وسيأتي حديث أبي موسى، وفيه: ((وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن)).
وفي ((صحيح مسلم))، عن صهيب، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال يقول الله – تبارك وتعالى -: ((تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتُنَجِّنا من النار؟ قال: فيكشف الحجاب، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم – عز وجل)) ()
والنصوص في إثبات الحجب لله – تعالى – كثيرة، يؤمن بها أتباع رسول الله – صلى الله عليه وسلم -، ويعلمون بما ورثوه من نور النبوة بأن الله – تعالى – احتجب بالنور، وبالنار، وبما شاء من الحجب، وأنه لو كشف عن وجهه الكريم الحجاب لما قام لنوره شيء من الخلق، بل يحترق، ولكنه تعالى في الدار الآخرة يكمل خلق المؤمنين ويقويهم على النظر إليه – تعالى – فينعمون بذلك، بل هو أعلى نعيمهم يوم القيامة.
وقد تولى شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – إبطال شبه هؤلاء المنكرين لحجب الله – تعالى -، في كتابه ((نقض تأسيس الجهمية، وإبطال بدعهم الكلامية)) بوجوه كثيرة، أكثر من أربعين وجهاً، كل وجه منها كاف في إبطال قولهم.
قال – رحمه الله -: ((أحدها: أنهم يقولون: إن الحجاب هو ما يخلقه الله في العين من الرؤية المتعلقة به تعالى.
وهذا باطل بالضرورة؛ لأنهم فسروا الحجاب بعدم الإدراك في أبصارهم، والعدم لا يخلق ولا وجود له، فهو ليس شيئاً.
الثاني: أنه ثبت في الحديث قوله: ((فيكشف الحجاب، فينظرون إليه)).
وكشف الشيء: إزالته ورفعه، وهذا لا يوصف به المعدوم، فإنه لا يزال، ولا يرفع، وإنما الذي يُزال ويُرفع: الموجود.
الثالث: أنه قال: ((فيكشف الحجاب فينظرون إليه)) فجعل النظر متعقباً لكشف الحجاب. وعند هؤلاء المبتدعة: الحجاب هو عدم خلق الرؤية، وضده خلق الرؤية، فيكون زوال ذلك العدم هو عين الرؤية، لا يكون شيئاً يتعقب [كشف] الحجاب، وتقدم أن العدم ليس شيئاً.
الرابع: أن في الحديث: ((حجابة النور، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما أدركه بصره من خلقه)).
ولو كان كما زعموا هو خلق الرؤية لم يكن كشف ذلك يحرق شيئاً. فالمؤمنون يرون ربهم في عرصات القيامة، وفي الجنة، ولا تحرق رؤيتهم شيئاً.
الخامس: [أنه] ثبت في ((الصحيحين)): ((وما بين القوم وبين أن ينظرون إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه، في جنة عدن)).
وعلى قول هؤلاء: ما بينهم وبين أن ينظرون إليه إلا زوال ذلك العدم بخلق الرؤية في أعينهم.
ومعلوم أن عدم خلق الرؤية فيهم ليس هو رداء الكبرياء، ولا هو على وجه الله الكريم، ولا هو في جنة عدن، ولا هو شيء أصلاً حتى يوصف بصفات الموجود.
السادس: أن من تأمل نصوص الكتاب والسُّنَّة، وما ورد في ذلك من الآثار عن الصحابة والتابعين، علم بالضرورة علماً يقيناً لا يستريب فيه أن لله حجاباً، وحجباً منفصلة عن العباد، يكشفها إذا شاء، فيتجلى، وإذا شاء لم يكشفها.
وإذا كان الحجاب كما يقول الرازي وذووه: ((هو الجسم المتوسط بين جسمين)) فلازم الحق حق، لا يمكن أن يدفع حيث علم بالاضطرار من دين المرسلين، فلا يدفع بما أحدثه سلف الرازي، وأئمته، ولا بما يشنعون به على أهل السُّنَّة من اصطلاحات، وألفاظ ابتدعوها، ما أنزل الله بها من سلطان.
فإن من أعظم بدعهم: قولهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وهذا هو الصنم الأكبر الذي صدوا به عباد الله عن معرفته، والإيمان به.
وهو الذي عُطل الله به من أسمائه وصفاته.
بل هو أساس الشرك والردة، والنفاق، وإن كان قد اغتر به طوائف من أهل الإيمان، لم يعلموا ما قصده واضعوه الذين أفسدوا به فطرة العباد التي فطرهم الله عليها، وأفسدوا به معاني كتاب الله، وصدوا به عن سبيل الله.
وهو لهؤلاء المبتدعة كاللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى للمشركين القدماء.
فإن الله – تعالى – لم ينزل في شيء من كتبه، ولا قال أحد من رسله، ولا أحد من ورثتهم: إن الله ليس بجوهر ولا جسم، وإن كان إثبات ذلك أيضاً بدعة وضلالة، إلا أن نفيه أعظم وأضل.
السابع: أن الله – تعالى – قال: ? وَمَا كَاَنَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحيًا أَو مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ? ومعلوم أن هذا التكليم مثل ما حصل لموسى، وهو أرفع درجة من التكليم بالوحي، وإرسال الرسول باتفاق المسلمين، كما دل على ذلك الكتاب والسُّنَّة.
فإذا كان الحجاب كما يقول هؤلاء: هو عدم خلق الرؤية، فذلك مشترك بين الأقسام الثلاثة، فلا يكون لمن كلم من وراء حجاب ميزة.
وبطلان ذلك ظاهر.
وقوله تعالى: ? مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ? معناه: من خلف حجاب، وعدم خلق الرؤية عدم محض، ليس له خلف، ولا أمام، فعلم أن الحق إثبات الحجاب لله حقيقة؛ لأنه موجود.
والتقدير على قولهم: أن يقال: ((أو من وراء عدم خلق الرؤية)) وهذا يشبه كلام المجانين، ولا يجعل هذا معنى كلام الله إلا زنديق متلاعب بالقرآن.
الثامن: أنه تعالى قال في الكفار:? كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ?))، فجعل حجابهم يوم القيامة، ولو كان الحجاب هو عدم خلق الرؤية لكانوا محجوبين في الدنيا والآخرة، ولكان المؤمنون أيضاً داخلين في ذلك، معذبين بهذا الحجاب الذي عذب به الكفار في الآخرة.
ولكنه حجاب خاص يحجب الله به الكفار حين يتجلى للأبرار.
ثم هذا الذي قالوه في الحجاب حمل للفظ على ما لا تحتمله اللغة بوجه من الوجوه فهو تبديل للغة، كما هو تحريف للقرآن وتبديل لمعانيه)) ().
و الله اعلم
¥