وإذا قالوا [الأشعرية] هو عالم بالعلم وقادر بالقدرة، لم يريدوا بذلك أن هنا ذاتا منفصلة عنه، صار بها عالما قادرا، كما يظنه بعض الغالطين عليهم، فإن هذا لم يقله أحد من عقلاء بني آدم فيما نعلم، ولكن بعضهم وهم مثبتة الحال كالقاضي أبي بكر والقاضي أبي يعلى وغيرهما يقولون: إن له صفة هي العلم أوجبت كونه عالما، وكونه عالما حال معللة بالعلم.
236
وأيضا فأنت [ابن رشد] تقول: إن الشرع لم يصرح بنفي التجسيم، وإن التصريح به بدعة. والشرع قد صرح بإثبات الصفات، فكيف تعيبنا [الأشعرية] بإثبات ما أثبته الشرع، لكونه مستلزما لإثبات ما لم ينفه الشرع؟
ومن المعلوم أن الشرع إذا أثبت شيئا له لوازم، لم يكن إثبات ذلك بدعة. وتلك اللوازم إن كانت ثابتة في نفس الأمر، فلازم الحق حق، وإن لم تكن لازمة فلا محذور.
237
أدلة إثبات الصفات أقوى من أدلة نفي الجسم، فإن أمكن الجمع بينهما، وإلا لم يجز نفي ما هو معلوم ثابت خوفا من لزوم ما ليس دليل انتفائه كدليل ثبوت ذلك
239
من المعلوم أن للناس في مسمى الجوهر والعرض اصطلاحات. منهم من يسمي كل قائم بنفسه جوهرا، كما يقول ذلك طوائف من المسلمين والنصارى والفلاسفة، وهؤلاء يسمونه جوهرا. ومنهم من لا يطلق الجواهر إلا على المتحيز، ويقول: إنه ليس بمتحيز، فلا يكون جوهرا، كما يقول ذلك من يقوله من متكلمي المسلمين واليهود والفلاسفة.
ومن الفلاسفة من يقول بإثبات جواهر غير متحيزة، لكن يقول: الجوهر هو ما إذا وجد وجد لا في موضوع، وهذا لا يصلح إلا لما يجوز وجوده، لا لما يجب وجوده.
وبالجملة فالنزاع في هذا الباب لفظي، ليس هو معنى عقليا، والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر حتى يحتاج أن ينظر في معناه.
والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي.
240
فلا يجوز التزام نفي الصفات الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية حذرا من التزام مسمى هذا الاسم الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات
242
وإذا قُدِّر أنه عنى بالبرهان القياس العقلي المنطقي، فمن المعلوم أن صورة القياس لا تفيد العلم بمواده، والبرهان إنما يكون برهانه بمواده اليقينية وإلا فصورته أمر سهل يقدر عليه عامة الناس.
وأهل الكلام لا ينازعون في الصورة الصحيحة. وهب أن الإنسان عنده ميزان، فإذا لم يكن معه ما يزن به، كان من معه مال لم يزنه / أعنى [كذا والصواب أغنى] من هذا
250
وذلك لأنهم اصطلحوا في معنى الجسم على غير المعنى المعروف في اللغة، فإن الجسم في اللغة هو البدن، وهؤلاء يسمون كل ما يشار إليه جسما، فلزم على قولهم أن يكون ما جاء به الكتاب والسنة وما فطر الله عليه عباده وما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها تجسيما، وهذا لا يختص طائفة لا الحنابلة ولا غيرهم، بل يطلقون لفظ المجسمة والمشبهة على أتباع السلف كلهم، حتى يقولوا في كتبهم: ومنهم طائفة يقال لهم المالكية ينتسبون إلى مالك بن أنس، ومنهم طائفة يقال لهم الشافعية ينتسبون إلى الشافعي.
[قاله أبو حاتم بن حمدان الرازي في كتاب الزينة]
255
وهؤلاء [الفلاسفة] من أصول ضلالهم ما في لفظ (العلة) من الإجمال، فإن لفظ (العلة) كثيرا ما يريدون به ما لا يكون الشيء إلا به، فتدخل في ذلك العلة الفاعلة، والقابلة والمادة والصورة.
وكثيرا ما يريدون بذلك الفاعل فقط، وهو المفهوم من لفظ / العلة.
256
وإلا فالصواب عند أهل السنة والجماعة أن وجود كل شيء وهو الوجود الذي في الخارج هو عين حقيقته الموجودة في الخارج، فكل موجود فله حقيقة مختصة به في الخارج عن الذهن، والوجود الذي يشار إليه في الخارج هو تلك الحقيقة نفسها، لا وجود آخر قائم بها.
258
ومن الحنابلة من يصرح بنفيه [لفظ الجسم] كأبي الحسن التميمي وأهل بيته، والقاضي أبي يعلى وأتباعه، وغيرهم ممن سلك مسلك ابن كلاب والأشعري في ذلك، ومنهم من يسلك مسلك المعتزلة كابن عقيل وصدقة بن الحسين وابن الجوزي وغيرهم.
261
ولقائل أن يقول: إن كان هذا المعلوم حقا، فيمتنع أنه لم يعلمه أحد قبل ابن التومرت ممن هو أعلم بالله وأفضل منه
¥