بل نقول إن المشركين من العرب أفهم للقرآن من المؤمنين المعاصرين لأن الأمر هنا ليس مناطا بالعقيدة وزكاة النفوس بل بفهم أسرار العربية وهي لغتهم التي تداولوها قبل أن تصل إلينا ففهمهم أولى من فهمنا قطعا.
وهنا أمر آخر له خطورته .. يتعلق بتطور دلالة الكلمة ...
فالكلمة تتعرض عبر الزمان لنوع من" الشحن" و"الإفراغ"
نقصد بالشحن امتلاء الكلمة بمعاني جديدة عرضت لها بحسب الاستعمالات المتكررة في مجالات مخصوصة .. ونعني بالإفراغ اختفاء دلالات أصيلة فيها بحسب ظروف معينة كأن لا تكون هناك حاجة للاستعمال فيها فتضمحل تدريجيا ..
من الواضح أننا لا نقصد من الدلالة المعنى المعجمي ف"العصفورة" عندنا حديثا هي" العصفورة" عندهم قديما ولكننا نقصد الكوكبة من المعاني الإيحائية المرافقة لذلك المعنى المعجمي .. وهذه الكوكبة هي الشاحنة لدلالة الكلمة والمثرية لها .. ولأن التمييز دقيق فضلنا أن نضرب أمثلة عامة ومثالا من تفسير القرآن ليستضيء القاريء بها:
"الغيث" و"المطر" يتحدان في المعنى المعجمي لكن في "الغيث" إيحاءات دلالية ليست موجودة في" المطر" بل فيها ما يضادها .. فيحصل عندنا زوج عجيب:مترادفان معجميا ومتضادان إيحائيا .. فالحدس العربي يستشف في كلمة الغيث معنى الرحمة والاستبشار والأمل ولا يستشف من كلمة المطر إلا النقمة وترقب العذاب-راجع موارد الكلمتين في القرآن الكريم لتقف على هذه الدقيقة الدلالية-
كلمة "زكاة" يستحيل ترجمتها إلى أي لغة أخرى .. لأن تلك اللغات لا يوجد فيها كلمة تعبر عن النقصان والزيادة في وقت واحد كما في العربية .. فالزكاة أخذ من المال- كما هو واضح- لكن الكلمة في الوقت ذاته تفيد النمو والزيادة .. فلو ترجمت الكلمة بضريبة أو إتاوة أو جباية لما تحقق المقصود .. انظر مثلا إلى "ضريبة" كيف أوحت بالضرب والألم والقسوة والتنفير فأين هذه المعاني مما تختزنه كلمة زكاة من التلطيف وطيب الرائحة والطهر والنمو وغير ذلك في كوكبة إيحائية مريحة للنفس.
كلمة رزق هي أيضا مما يستحيل ترجمته .. فقد تشربت هذه الكلمة في العربية معاني روحية سماوية لا يمكن أن تكون في كلمات مثل تموين أو إنفاق أو ميزانية أو غيرها ..
نعود مرة أخرى لكلمة المطر لنرى التضاد والترادف مجتمعين في مكان واحد .. فلو ترجمنا المطر-أو الغيث –إلى الفرنسية لقيل pluie فتشترك الكلمة العربية والكلمة الإفرنجية في الدلالة المعجمية على الماء النازل من السماء ... ولكن شتان بين إيحاء الكلمتين فترى العربي يستبشر بالكلمة خيرا وتنزل عليه بردا وسلاما بسبب مناخه الصحراوي الجاف أما الفرنسي فهو يضيق بالكلمة فسماعها تعنى عنده فساد العطلة الأسبوعية وإجهاض النزهة الغابوية .. ولو تتبعت في الأدبين العربي والفرنسي استعمال الكلمتين لظهر الفرق جليا فالكلمة في الشعر العربي مرتبطة بالرحمة "سقيا القبر" "شآبيب الرحمة "
"إرواء الصدى" أما الشعر الفرنسي فلا تكاد تذكر pluie إلا في سياقات الموت والغم.
ونحن نضرب لكم الآن مثلا من تفسير القرآن:
يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4)
إن جل الناس اليوم يفهمون من "الفراش" الدلالة على تلك الحشرات الطائرة ذات الألوان الزاهية- الفراشات:، papillons- "butterfly ولو صح هذا لنتج فساد كبير في فهم بلاغة التشبيه في الآية ..
فصورة "الفراش المبثوث" بفهمنا المعاصر صورة بهيجة مريحة للنفس والعين ... ونحن نتذكر عندما كنا اطفالا كيف كنا نشتهي القبض على الفراشات وكيف كنا نطاردها في أمل وفرح ... والفراش المبثوث صورة من شأنها أن تعيد هذه الإيحاءات النفسية .. فهل هذا هو القصد البلاغي لتشبيه القرآن؟ هل يريد القرآن أن يعرض علينا حشر الناس منظرا للفرجة بهيجا كما يشعر به المشبه به فراشات راقصة ملونة لطيفة!!!!
التشبيه في الآية بفهمنا المعاصر يحقق تحسين المشبه .. والمقصود عكسه ... فهل أخل القرآن بالبلاغة فلم يطابق بين القول والمقام!!!
لن تدرك بلاغة التشبيه القرآني حتى تفهم كلمة الفراش قبل الشحن والتفريغ .. استمع إلى ما يقوله القرطبي عن الكلمة:
قال قتادة: الفراش الطير الذي يتساقط في النار والسراج. الواحدة فراشة، وقاله أبو عبيدة. وقال الفراء: إنه الهَمَج الطائر، من بَعوض وغيره؛ ومنه الجراد. ويقال: هو أطيش من فراشة. وقال:
¥