تعلم أن هذا الحديث أخبر الله تعالى به عن نفسه، ونقله عنه أمينه على وحيه ورسوله إلى عباده ومبلغ رسالته على الوجه الأتم، ونقله عن هذا الرسول أمناء أمته من الصحابة والتابعين وأئمة من أهل الحديث والفقه، وتلقته الأمة بالقبول.
وتعلم يا محب أن الله تبارك وتعالى أعلم بنفسه وبغيره:
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون}، {قل أأنتم أعلم أمِ الله}.
وتعلم يا محب أن الله تعالى لم يطلع خلقه على ما علمه إياهم من أسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه إلا ليبين لهم الحق حتى لا يضلوا: {يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم}.
وتعلم يا محب أنه لا أحد أحسن من الله حديثا، ولا أصدق منه قيلا، وأن كلامه جل وعلا في أعلى الفصاحة والبيان.
وقد قال سبحانه عن نفسه:
" من أتاني يمشي أتيته هرولة"، فلا تستوحش يا أخي من شيء أثبته الله تعالى لنفسه بعد أن علمت ما سبق، واعلم أنك إذا نفيت أن الله تعالى يأتي هرولة، فسيكون مضمون هذا النفي صحة أن يقال:
إن الله لا يأتي هرولة، وفي هذا ما فيه.
ومن المعلوم أن السلف يؤمنون بأن الله تعالى يأتي إتيانا حقيقيا للفصل بين عباده يوم القيامة على الوجه اللائق به، كما دل على ذلك كتاب الله تعالى، وليس في هذا الحديث القدسي إلا أن إتيانه يكون هرولة لمن أتاه يمشي، فمن أثبت إتيان الله تعالى حقيقة لم يشكل عليه أن يكون شيء من هذا الإتيان بصفة الهرولة على الوجه اللائق به، وأي مانع يمنع من أن نؤمن بأن الله تعالى يأتي هرولة، وقد أخبر الله تعالى به عن نفسه؟!
وهو سبحانه وتعالى يفعل ما يشاء، و {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير}.
". . . "
إلى أن قال العثيمين:
[وإن الإنسان ليجد في نفسه الخوف من أن يلقى الله عز وجل وهو يقول:
إن الله تعالى لا يأتي هرولة، بعد أن أثبت الله ذلك لنفسه، وسبحان من قال عن نفسه: {ويفعل الله ما يشاء}.
ولقد تأملت هذه المسألة، وكلما هممت أن أقول بما ذهب إليه بعض الناس في هذا الحديث، وجدتني خائفا أن أقول في كلام الله عزوجل ما لا أعلم، وأن بقائي على ما يدل عليه ظاهر الحديث مع تنزيه الله عزوجل عما لا يليق به من مماثلة الخلق، ومع الكف عن تكييف صفاته، أسلم في عقيدتي، وأبعد لي عن التكلف، و {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.
وإني لأشكر فضيلتكم على ما أتحفتموني به من كلام شيخ الإسلام في نقضه كلام الرازي، فنعم التحفة ونعم من أتحف بها أصلا ونقلا.
ولا يخفى على فضيلتكم ما لشيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى – من التحقيق في المنقول والمعقول، مما جعل كلامه – رحمه الله تعالى – له الأثر في النفوس والقبول، تغمده الله برحمته، وجزاه عن الإسلام والمسلمين خيرا.
لكن لا يخفى على فضيلتكم أن جل كلامه الذي نقلتم إنما هو مسألة التقرب، لأنه هو الذي ذكر بلفظ المساحة، ومع ذلك فقد أورده الشيخ – رحمه الله تعالى – بذلك الترديد حيث قال:
(إما أن يكون ظاهر اللفظ في تقرب العبد إلى ربه هو تقرب المساحة المذكورة أو لا يكون، فإن كان ذلك هو ظاهر اللفظ، فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون ممكنا، فإن كان ممكنا فالآخر أيضا ممكن، ولا يكون في ذلك مخالفة للظاهر، وإن لم يكن ممكنا فمن أظهر الأشياء للإنسان علمه بنفسه، وسعيه، فيكون قد ظهر للمخاطب معنى قربه بنفسه، وقد علم أن قرب ربه إليه من جنس ذلك، فيكون الآخر أيضا ظاهرا في الخطاب؛ فلا يكون ظاهر الخطاب هو المعنى الممتنع، بل ظاهره هو المعنى الحق، ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة.
لكن قد يقال: عدم ظهور هذا هو للقرينة الحسية العقلية، وهو أن العبد يعلم أن تقربه ليس على هذا الوجه، وذلك لا يمنع أن يكون ظاهر اللفظ متروكا، فيقال: هذه القرينة الحسية الظاهرة لكل أحد هي أبلغ من القرينة اللفظية، فيكون بمعنى الخطاب ما ظهر بها لا ما ظهر بدونها) اهـ المقصود منه.
¥