فأنت ترى – حفظك الله – أن الشيخ – رحمه الله تعالى – جعل الأمر مترددا بين أن يكون التقرب بالمساحة ظاهر اللفظ، أو لا يكون، وإنه إن كان ظاهر اللفظ فإما أن يكون ممكنا أو لا يكون، وأنه إن كان ممكنا، فالآخر أيضا ممكن، وإن لم يكن ممكنا فالآخر من جنس ذلك، ولا يمكن أن يكون غير الممكن ظاهر الخطاب لامتناعه، يعني أننا إذا قلنا: إن تقرب العبد إلى ربه بالمساحة الشبر والذراع غير ممكن، صار تقرب الله تعالى بالذراع والباع غير ممكن، وإن كان غير ممكن امتنع أن يكون هو ظاهر الخطاب؛ لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر كلام الله تعالى أمرا مستحيلا.
وأما قوله – رحمه الله تعالى -:
(ومن المعلوم أنه ليس ظاهر الخطاب أن العبد يتقرب إلى الله تعالى بحركة بدنه شبرا وذراعا ومشيا وهرولة).
فإنه قد يقال: ما الذي يمنع ذلك، فإن العبد يتقرب إلى ربه بحركة قلبه وحركة بدنه، ولهذا يقال: القلوب جوالة، فقلب يحوم حول العرش، وقلب يتجول حول الحش، وحركة القلب وشعور العبد بقربه من ربه بقلبه أمر معلوم، وكذلك حركة البدن التي يتقرب العبد بها إلى ربه بكون الحركة نفسها عبادة، أو يتوصل بها إلى عبادة، أمر معلوم، ألا ترى إلى قوله تعالى في شأن موسى:
{وناديناه من جانب الطور الأيمن وقربناه نجيا}، قال ابن كثير – رحمه الله تعالى -:
(كلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه) اهـ.
و لا يخفى على فضيلتكم ما رواه الإمام أحمد وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة –رضي الله عنه-أن النبي –صلى الله عليه وسلم- قال:
" إن الله يباهي بأهل عرفات أهل السماء، فيقول لهم: انظروا إلى عبادي جاءوني شعثا غبرا".
وما رواه أحمد ومسلم من حديث عائشة – رضي الله عنها – أن النبي – صلى الله عليه وسلم- قال:
" ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة فيقول: ما أراد هؤلاء".
ودنوه جل وعلا –كما يعلم فضيلتكم- لا ينافي علوه تعالى، قال شيخ الإسلام في الفتاوى (جمع ابن قاسم 5/ 460):
(وأصل هذا أن قربه سبحانه ودنوه من بعض مخلوقاته لا يستلزم أن تخلو ذاته من فوق العرش، بل هو فوق العرش ويقرب من خلقه كيف يشاء، كما قال ذلك من قاله من السلف، وهذا كقربه إلى موسى لما كلمه من الشجرة " ... " إلى أن قال (464): (وإذا كان المنادي هو الله رب العالمين، وقد ناداه من موضع معين وقربه إليه، دل ذلك على ما قاله السلف من قربه ودنوه من موسى عليه السلام، مع أن هذا قرب مما دون السماء " ... " إلى أن قال (465):
(وقربه من العباد من بتقربهم إليه مما يقر به جميع من يقول: إنه فوق العرش، سواء قالوا مع ذلك: إنه تقوم به الأفعال الاختيارية، أم لم يقولوا.
و أما من ينكر ذلك فمنهم من يفسر قرب العباد بكونهم يقاربونه ويشابهونه من بعض الوجوه، فيكونون قريبين منه، وهذا تفسير أبي حامد والمتفلسفة، ومنهم من يفسر قربهم بطاعته، ويفسر قربه بإثابته، وهذا تفسير جمهور الجهمية، فإنهم ليس عندهم قرب ولا تقريب أصلا.
ومما يدخل في معاني القرب – وليس في الطوائف من ينكره – قرب المعروف والمعبود إلى قلوب العارفين العابدين، فإن كل من أحب شيئا فإنه لابد أن يعرفه ويقرب من قلبه، والذي يبغضه يبعد من قلبه).
" ... " إلى أن قال:
(والذين يثبتون تقريبه العباد إلى ذاته هو القول المعروف للسلف والأئمة، وهو قول الأشعري، وغيره من الكلابية، فإنهم يثبتون قرب العباد إلى ذاته " ... " إلى أن قال:
(و أما دنوه نفسه وتقربه من بعض عباده، فهذا يثبته من يثبت قيام الأفعال الاختيارية بنفسه، ومجيئه يوم القيامة، ونزوله و استواءه على العرش، وهذا مذهب أئمة السلف وأئمة الإسلام المشهورين، وأهل الحديث، والنقل عنهم متواتر، وأول من أنكر هذا في الإسلام الجهمية، ومن وافقهم من المعتزلة).
وقال في ص (31/ 6):
(لكن عموم المسلمين وسلف الأمة، وأهل السنة من جميع الطوائف تقر بذلك، فيكون العبد متقربا بحركة روحه وبدنه إلى ربه، مع إثباتهم أيضا التقرب منهما إلى الأماكن المشرفة، وإثباتهم أيضا تحول روحه وبدنه من حال إلى حال:
فالأول: مثل معراج النبي – صلى الله عليه وسلم – وعروج روح العبد إلى ربه، وقربه منه في السجود وغير ذلك.
والثاني: مثل الحج إلى بيته، وقصده في المساجد.
والثالث: مثل ذكره له، ودعائه، ومحبته، وعبادته، وهو في بيته، لكن في هذين يقرون أيضا بقرب الروح أيضا إلى الله نفسه، فيجمعون بين الأنواع كلها).
قال في ص (13/ 6):
(وإذا كان قرب عباده منه نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف، وأتباعهم من أهل الحديث، والفقهاء، والصوفية، وأهل الكلام، لم يجب أن يُتأول كل نص فيه ذكر قربه من جهة امتناع القرب عليه، و لا يلزم من جواز القرب عليه أن يكون كل موضع ذكر فيه قربه يراد به قربه بنفسه، بل يبقى هذا من الأمور الجائزة، وينظر في النص الوارد، فإن دل على هذا حمل عليه، وإن دل على هذا حمل عليه، وكما تقدم في لفظ الإتيان والمجيء) اهـ.
ففي هذا الكلام من تقرير تقرب العبد إلى ربه بحركة روحه وبدنه، وأن قرب العباد منه نفسه، وقربه منهم، ليس ممتنعا عند الجماهير من السلف وأتباعهم، ما يخالف ما ذكره في نقضه على الرازي، وعليه فيكون للشيخ-رحمه الله تعالى- في هذا قولان، ولكن أيهما أقرب أن يكون أرجح عنده؟
قد يقال: إن الثاني أقرب أن يكون أرجح، لأن فيه زيادة، ولأنه ساقه جازما به، بخلاف الأول فإنه كان فيه ترديد، والله أعلم.
وخلاصة القول: إن إبقاء النص على ظاهره أولى وأسلم فيما أراه، ولو ذهب ذاهب إلى تأويله لظهور القرينة عنده في ذلك، لوسعه الأمر لاحتماله.
والله تعالى رقيب على قول كل قائل وقلبه، فنسأل الله تعالى الهداية والتوفيق لما يحب ويرضى، إنه جواد كريم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته] اهـ.
من (إزالة الستار عن الجواب المختار لهداية المحتار .. ). ط. دار ابن خزيمة، ص 36 - 46.
والحمد لله رب العالمين