تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

ويشير أبن رشد إلى إن الغزالي قد أخطأ بحق الفلاسفة في ما نسب إليهم من إنهم يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات. فهم يرون أنه يعلمها بعلم غير متجانس لعلمنا بها. علمنا بها معلول للمعلوم به، فهو محدَث ومتغيَّر بتغيّره، وعلم الله على مقابل هذا، فإنه علّة للمعلوم الذي هو الموجود. فمن شبّه العلِمين أحدهما بالآخر، فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصّها واحداً، وذلك غاية الجهل. فأسم العلِم، إذا قيل على العلم المحدَث والقديم، فهو مّقول باشتراك الأسم المحض. ولهذا ليس ههنا حدّ يشمل العلِمين جميعاً، كما توهّمه المتكلمون من أهل زماننا.

كيف يتوهّم الغزالي على الفلاسفة أنهم يقولون إن الله لا يعلم الجزئيات بالعلم القديم، وهم يرون أن الرؤيا الصادقة تتضمّن الإنذارات بالجزئيات الحادثة في الزمان المستقبل، وأن ذلك العلم المنذر يحصل للإنسان في النوم من قبل العلم الأزلي المدبّر للكل والمستولي عليه؟ وليس يرون أنه لا يعلم الجزئيات فقط على النحو الذي نعلمه نحن، بل ولا الكليات: إن الكليات المعلومة عندنا معلولة أيضاً عن طبيعة الموجود، والأمر في ذلك العلم بالعكس. فما قد أدّى إليه البرهان للاختلاف في هذه المسألة أعني في تكفيرهم أو لا تكفيرهم.

مسألة قِدم العالم

ينص أبن رشد على أن "تقدم الله على العالم إنما هو تقدم الوجود والذي ليس بمتغير ولا زمان، على الوجود المتغير الذي في الزمان، وهو نوع آخر من التقدم". (تهافت التهافت ص، 140). بمعنى أن الله ليس من شأنه أن يكون في زمان، فهو الخالق لكل شيء موجود. فلا ينطبق على أفعاله تعالى شيئاً مما يخلقه. بينما العالم شأنه أن يكون في زمان، وبالتالي ينطبق عليه الزمن، لأنه مادي متحرك. فإن: لم توجد الحركة لم يوجد الزمن، إذ الزمن هو مقياس الحركة، والحركة تابعة للعالم.

وهكذا يكون هناك نوعين من الوجود حسب تصور أبن رشد، أحدهما مادي تكون "في طبيعته الحركة" ولا ينفك عن الزمان. والآخر لا مادي حيث "ليس في طبيعته الحركة" ويكون أزلي ولا يتصف بالزمان. ولذلك فإن تقدم أحد الوجودين على الآخر ليس تقدماً زمنياً. وإذا قال الغزالي: "إن تقدم الباري سبحانه على العالم ليس تقدماً زمانياً". فإنه قول صحيح. ولكن تأخر العالم عنه لا يُفهم في هذه الحالة إلا تأخر المعلول عن العلة. فإذا كان التقدم ليس زمانياً، فالتأخر ليس زمانياً أيضاً. (ص، 141).

فعندما ينص الغزالي على أن الله خلق العالم في زمن بإرادة قديمة، يرد عليه أبن رشد قائلاً: أن جاز فصل للإرادة عن العمل، فإنه لا يجوز فصل العلّة عن المعلول لعلته. فالله أزليّ بوجوده، وفعله لا ينفصل عن وجوده، ففعله بالتالي أزلي مثله، ومعلولات فعله أزلية كفعله.

يشير أبن رشد قائلاً: إذا سلّمنا مع الغزالي أن الزمان لم يكن قبل العالم، فذلك يعني أن الله كان قبل العالم خارج الزمان وسيظل بعد العالم خارج الزمان، فلن يكون الله إذن أبدياً أبداً في الزمان وهذا محال.

وبما أن العامة من الناس يستسيغون أكثر إلى الوصف المادي، لذا فإن: الشرع قد سلك بالجمهور طريق التمثيل بالشاهد، وإن لم يكن لذلك مثال في الشاهد. إذ لا يمكن للجمهور أن يتصوروا على كنهه ما ليس له مثال في الشاهد، فأخبر تعالى إن خلقه للعالم وقع في زمان وإنه خلقه من شيء، لأنه لا يُعرف في الشاهد موجود إلا بهذه الصفة، فقال سبحانه مخبراً عن حاله قبل وجود العالم: "وكان عرشه على الماء". وقال تعالى: "إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام". وقال أيضاً: "ثم استوى إلى السماء وهي دخان" الخ. فيجب ألاَّ يُتأول شيء من هذا للجمهور وإلا بطلت الحكمة الشرعية. (مناهج الأدلة، ص 205).

ومن أجل حصر الاختلاف في هذه المسألة بين المتكلمين والفلاسفة، يجعله أبن رشد اختلافاً في التسمية ليس إلا. وذلك أنهم اتفقوا على أن ههنا ثلاثة من الموجودات: طرفان وواسطة بين الطرفين، فاتفقوا في تسمية الطرفين واختلفوا في الواسطة.

الطرف الأول هو موجود وُجد من شيء غيره، أي عن سبب فاعل ومن مادة، والزمان متقدم على وجوده. وهذه هي حال الأجسام التي يُدرّك تكونها بالحس، كتكون الماء والهواء والأرض والحيوان والنبات وغير ذلك. وقد اتفق الجميع على تسميته هذا الصنف من الموجودات بالموجودات المُحدثة. (فصل المقال، ص 40).

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير