تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

والطرف المقابل لهذا هو موجود لم يكن من شيء، ولا عن شيء، ولا تقدّمه زمان. وهذا أيضاً اتّفق الجميع على تسميته قديماً. وهذا الموجود إنما يدرك بالبرهان، وهو الله فاعل وموجده والحافظ له.

أما الصنف الذي بين هذين الطرفين فهو موجود لم يكن من شيء، ولا تقدمه، لكنه موجود على شيء، أي عن فاعل، وهذا هو العالم بأسره. والكل منهم متّفق على وجود هذه الصفات الثلاث له. فإن المتكلمين يسلّمون أن الزمان غير متقدّم على العالم، أو يلزمهم ذلك إذ الزمان عندهم شيء مقارن للحركات والأجسام. وهم أيضاً متّفقون مع القدماء على أن الزمان المستقبل غير متناهٍ، وكذلك الوجود المستقبل. وإنما يختلفون في الزمن الماضي والوجود الماضي: المتكلمون يرون أنه متناه، وهذا هو مذهب أفلاطون وشيعته، أما أرسطو وفرقته فيرون أنه غير متناهٍ كالحال في المستقبل. وهو في الحقيقة ليس محدثاً حقيقياً لأن المحدث الحقيقّي فاسدٌ ضرورةً، ولا قديماً حقيقياً لأن القديم الحقيقي ليس له علّة. وهذا ما حمل أفلاطون وشيعته على تسميته "محدثاً أزلياً" لكون الزمان متناهياً عندهم من الماضي.

وهكذا فالمذاهب في العالم ليست متباعدة حتى يُكفّر بعضها بعضاً. فلا ينبغي للمسلمين إذن أن يتخذوا من هذا الخلاف اللفظي سبباً لإلقاء التهم جزافاً بلا مبرر. ويشبه أن يكون المختلفين في تأويل هذه المسائل العويصة أما مصيبين مأجورين وأما مخطئين معذورين. (ص 41).

إن أبن رشد يحاول في مسألة قِدم العالم أن يجعل الاختلاف بين الفلاسفة والمتكلمين الأشعرية وعلى رأسهم الغزالي مجرد اختلاف باللفظ ليس إلا. وهذه محاولة تهدف إلى التبرير لا التحليل. حيث يبغي أبن رشد من ورائها أن يجمع بين الشرع والحكمة ضمن مسار واحد. علاوة على إنه قد أخذ بنظرية أرسطو في أزلية المادة. أي أن الخلق الإلهي حسب المفهوم الرشدي يكون بتحريك تلك المادة لإخراجها من القوة إلى الفعل. فإن الله "مخترع" يخلق الأشياء من المادة الموجودة. وهذا انتقاص تجاه الحقيقة الإلهية في القدرة المطلقة على الخلق من العدم.

مسألة السببية

في هذه المسألة يقف كل من أبن رشد والغزالي على طرفي نقيض. فبالنسبة إلى الغزالي: أن الاقتران بين ما يُعرف بالسبب وما يُعرف بالمسبَّب إنما هو اقتران عرّضي جائز، مرده إلى حكم العادة، لا إلى الضرورة العقلية. أن الفلاسفة الذين يقولون بالسببية لا دليل لهم عليها إلا ما يشاهدون من اقتران بين الأسباب والمسبَّبات، لكن هذه المشاهدة لا تدل على حصول الشيء بالشيء المقترّن به، بل على حصوله عنده، وشتان بين الاثنين. فما نرى من تلازم بين السبب والمسبَّب ليس ضرورياً إذن وإنما هو وليد العادة فقط لأن الله قادر على خرق العادة متى شاء، وعندئذ يرتفع الاقتران بين ما يُعتقد في العادة سبباً وبين ما يُعتقد مسبَّباً، وهو ما يحدث في المعجزات.

يرد عليه أبن رشد قائلاً: أن "للأشياء ذوات وصفات هي التي اقتضت الأفعال الخاصة بموجود موجود، وهي التي من قِبَلها اختلفت ذوات الأشياء وأسماؤها وحدودها. فلو لم يكن لموجود موجود فعل يخصه لم تكن له طبيعة تخصه، ولو لم تكن له طبيعة تخصه لِما كان له أسم يخصه ولا حدّ، وكانت الأشياء كلها شيئاً واحداً ولا شيئاً واحداً. لأن ذلك الواحد يسأل عنه: هل له فعل واحد يخصه، أو ليس له ذلك، فإن كان له فعل يخصه فهنا أفعال خاصة صادرة عن طبائع خاصة. وإن لم يكن له فعل يخصه واحد، فالواحد ليس بواحد. وإذا ارتفعت طبيعة الواحد، ارتفعت طبيعة الموجود. وإذا ارتفعت طبيعة الموجود، لزم العدم". (تهافت التهافت، ص 782 - 783).

ويضرب أبن رشد مثلاً على طبيعة الأشياء المادية، حيث أن: الماء له طبيعة تخصه وهو كونه مادة سائلة بها يكون الرّي والرطوبة، والنار لها طبيعة أخرى تخصها وهو كونها جسماً شفافاً به يكون الإحراق والضوء. فلو لم يكن لكل من النار والماء طبيعة تخصه لِما كان فعل يخصه، ولكان الماء والنار شيئاً واحداً.

وهكذا فإن السببية تقوم على المشاهدة وليس على الضرورة العقلية، لأن الفعل والانفعال بين الأشياء إنّما يقعان بإضافة من الإضافات التي لا تتناهى، كإضافة الجسم الحسّاس إلى النار للاحتراق، لكن هذا لا يمنع من أن يكون هنالك موجود يعوق تلك الإضافة كحجر الطلق في عدم الاحتراق.

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير