وفي الدليل الخامس الذي يشير فيه الغزالي إلى: " إنه يجوز أن تخرق العادة، فيبصر البصر ذاته، فقول في غاية السفسطة والشعوذة" حسب رأي أبن رشد. إذ لا يمكن أن تنخرق العادة فيبصر البصر ذاته. فقول الغزالي إنه لا يبعد أن يكون إدراك جسماني يدرك نفسه، ولكن إذا عرف الوجه الذي حركهم إلى هذا، علم امتناع هذا. ذلك أن الإدراك شيء يوجد بين فاعل ومنفعل، وهو المدرّك والمدرِك. ويستحيل أن يكون الحس فاعلاً ومنفعلاً في آن واحد. فإذا وجد فاعلاً ومنفعلاً فمن جهتين: أعني أن الفعل يوجد له حينئذ من جهة الصورة، والانفعال من قِبل الهيولي. فالمركَّب لا يعقل ذاته، لأن ذاته تكون غير الذي به يعقل، فهو يعقل بجزء من ذاته، فلو عقل المركَّب ذاته، لعاد المركَّب بسيطاً، وعاد الكل جزءً. (ص 841).
في الدليل التاسع يعترف أبن رشد قائلاً: أن "اعتراض أبي حامد على هذا الدليل صحيح". حيث أن هذا الدليل لم يستعمله أحد من القدماء في إثبات بقاء النفس، وإنما استعملوه ليبرهنوا على أن في الأشخاص جوهراً باقياً من الولادة إلى الموت، وأن الأشياء ليست في سيلان دائم، كما اعتقد الكثير من القدماء فنفوا المعرفة الضرورية.
المعاد الجسماني
يتفق أبن رشد مع الغزالي في الردّ على الذين ينكرون خلود النفس. إلا أنه ينفي عن الفلاسفة إنكارهم لمسألة حشر الأجساد. وإذا ما وجد لواحد منهم ها الأمر ففيه نظر يقوم على فكرة: أن أجسام الموتى تستحيل إلى تراب ونبات وأناس آخرين، فالمادة الواحدة بعينها توجد لأشخاص كثيرة في أوقات مختلفة. ومثل "هذه الأجسام ليس ممكن أن توجد كلها بالفعل لأن مادتها هي واحدة". فالأجسام التي تعود عي مثل الأجسام التي كانت في هذه الدار، لا بعينها، لأن المعدوم لا يعود بالشخص، وإنما يعود الموجود لمثل ما عدم لا لعين ما عدم. ذلك أن ما عدم عدم ثم وجد فإنه واحد بالنوع، لا واحد بالعدد بل اثنان بالعدد. وقضية عودة الأجسام بعينها ليست من أصل الشرع ليكّفر من لا يعتقد بها، والغزالي نفسه جوّز عودتها من مادّتها الأولى أو غيرها.
ويوضح أبن رشد على أن مسالة المعاد التي اتفقت على وجوده الشرائع الدينية وقامت علية البراهين الفلسفية يكون بغير ما نص عليه الغزالي. حيث اختلفت الشرائع في صيغة وجوده: فمنها من جعله روحانياً فقط، ومنها من جعله للأجساد والنفوس معاً. والشرائع كلها متفقة أنّ للنفوس بعد الموت أحوالاً من السعادة أو الشقاء، لكنها تختلف في تمثيل هذه الأحوال وتفهيم وجودها للناس. ويشبه أن يكون تمثيل المعاد لجمهور الناس بالأمور الجسمانية أفضل من تمثيله بالأمور الروحانية، لأن ذلك أتم إفهاماً للجمهور وأكثر تحريكاً للنفوس.
صفوة القول عند أبن رشد أنه يميل أكثر تجاه المعاد الجسماني عن المعاد الروحاني. لأنه يؤمن في وحدة النفس البشرية التي تخلد فيها النفوس الجزئية أو الفردية. ورغم إنه هنا لا يرضي الشرع الإسلامي، إلا انه يرضي فكره الفلسفي في النفس الإنسانية وغيرها من القضايا والمسائل الفكرية. وكان الأجدر به وهو القاضي الفقيه أن لا يُسَير الفلسفة على حساب الدين، كما سَير الإمام الغزالي الدين على حساب الفلسفة.
لماذا لم يدم رد أبن رشد
أن الجهد الفكري الهائل الذي أنفقه أبن رشد في المجالين الفلسفي والديني لكي يعيد اللحمة فيما بينهما وينهي حالة الجفاء والقطيعة التي أحدثها الغزالي، لم يكن بالأمر الصعب بالنسبة لرجل كان إمام عصره في العلم والفلسفة. وهكذا كان أبن رشد ناجحاً ومتمكناً في إعادة قيمة الفلسفة للعقل العربي. وأبطل شرعاً قضية تكفير الغزالي للفارابي وأبن سينا. وتمكن بكل جدارة أن يتوسط في فكره ويجمع بتوافقية مذهلة بين المادية والمثالية. ولكن عمله هذا لم يحقق تلك الاستمرارية الواجبة لها داخل المجتمع العربي. ولم تنتشر أفكاره بحرية مستمرة حتى في المغرب العربي، بدليل تعرضه لنكبة في أواخر حياته، حيث رموه بالمروق والخروج على الدين. وانتهى الأمر بنفيه من قرطبة واعتقاله في بلدة اليسانة، وتم إحراق كتبه التي تبحث في الفلسفة. وهذا الوضع له أسبابه ومن أهمها حسب تصورنا هي:
أولاً: أن الرد الذي جاء به أبن رشد يعتبر متأخراً جداً لاسيما في المشرق العربي. حيث التقهقر الحضاري صار واضحاً وبدأت شمس العلوم تغرب عن العرب. وهذه العملية طبيعية حيث تخضع إلى حركة التاريخ السائرة في جميع الشعوب والأمم. وبالتالي لم يؤثر فيهم رد أبن رشد ولا فلسفته ذلك التأثير الملحوظ.
أما قول الفيلسوف الإنكليزي برتراند راسل عن "الفلاسفة العرب" بشكل عام إنه: "كان ينظر إليهم العامة من الناس بتعصب وتزمت، وكانت سلامتهم (عندما يكونوا في أمان) وفق حماية نسبية من الأمراء المفكرين الحرين". (تاريخ الفلسفة الغربية، طبعة إنكليزية، ص 417). فهذا قول قاصر عن فهم حقيقة المرحلة التاريخية في الفكر الفلسفي الإسلامي.
ثانياً: لقد نال أبن رشد حظوة ومكانة مميزة في دولة الموحدين، فهو طبيب الخليفة الخاص، وتولى منصب القضاء بقرطبة، وينتقل دائماً مع بلاط الخليفة سواء بمراكش أو الأندلس. وهذا المقام يساعده أكثر في نشر أفكاره وأرائه. ومع ذلك فإن أبن رشد تاريخياً بقى القطب الثالث بعد القطبين أبن باجة وأبن طفيل. وهذا يعني أن رده وأفكاره لم تستثمر تماماً في المغرب العربي. والسبب لأن صراعه الفكري الحاد كان مع علماء وفقهاء المتكلمين من الاشاعرة الذين يمثلون مذهب الدولة الرسمي. فلا عجب أن اتهموه بالإلحاد والبُدع والخروج عن الملة. ولا غرابة أيضاً أن يحرقون مؤلفاته الفلسفية فقط؛ ويتركون كتبه في الطب والحساب وعلم النجوم.
ثالثاً: إن النقطة الأخيرة توضح لنا أكثر عن السبب الآخر في خنق الرد الرشدي على الاشعري الغزالي. إذ في الوقت الذي استمرت فيه في مؤلفاته الطبية والعلمية بالتداول والدراسة، كانت نتاجاته الفلسفية رماداً منثورا. لا تعصباً لدين بقدر ما كانت نقمة وحسد وغيض تجاه أبن رشد الذي ملك ناصية العلم والفلسفة بكفاءة قل نظيرها. وإلا ما معنى أن يتهموه بالإلحاد ويحافظون على كتبه الطبية والعلمية.