وأمّا قولك "نتمسّح بقبورهم" فإنّ مثل هذا التمسّح نوع من الشرك
ولا يكون إلاّ للحجر الأسود بالكعبة فقط مع التوحيد الخالص لله وقد قال له عمر
يخاطبه: "والله ما أنت إلا حجر لا تنفع ولا تضر ولو لا أنّي رأيت رسول الله
يقبلك ما قبلتك" (متفق عليه). فإن كنت مع الحجر الأسود كما قال عمر فلا بأس
أن تقبّله، أمّا غيره فلا يجوز لك التمسّح به فإنّ التمسّح به وتقبيله شرك يتنَزّه عنه
المؤمن الموحّد. إنّ المؤمن يعلم – كما علم عمر – أنّه حجر والله يقول في مثله
من الجماد الذي كان يفتن العباد: "إنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا
مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشركِكُمْ وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ" [فاطر: 14].
فالبركة المستفادة من هذا التمسّح هي الرجوع إلى عهد الجاهلية والشرك بالله
.
هذا هو التمسّح بالقبور، فإنّها أجداث، فإن قصدت ساكني القبور فإنّ ذلك
منك أضلّ ألم تر أنّ صاحب القبر كان حيّا يرزق ثم جاءه الموت، والموت
كريه لا يحبّ زيارته أحد من الأحياء، فلم يستطع دفعه عن نفسه واستسلم
مكرها ولو استطاع أن يفتدي منه لبذل له الدنيا وما فيها.
فمن رجا الخير من ميّت أو دفع الضرّ المتوقّع فلا أضلّ منه، فادع في كلّ ما
يصيبك الحيّ الذي لا يموت فإنّه النافع الضّار وحده والله يوصي عباده فيقول:
"ومِنْ آيَاتِِهِ اللَّيْلُ والنَّهَارُ والشَّمسُ والقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ
واسْجُدُوا لله الذي خَلَقهُنَّ إنْ كُنتُمْ إيَّاهُ تَعْبُدُون" [فصلت: 37]. ثالثا: فأمّا قولك
"كنّا نتوسّل بهم" فإنّ التوسّل الشائع بين الناس وهو الدعاء – الدعاء هو مخ العبادة –
شرك محض، فالتوحيد أن تدعو الله الذي خلقك – ولو عظمت ذنوبك – فإنه معك
يسمع دعاءك فإن كان لا بدّ من التوسّل فتوسّل بصالح أعمالك كما فعل الثلاثة
اصحاب الغار حينما نزلت عليهم الصخرة وسدّته عليهم، فاستجاب لهم من يعلم
شدّتهم. هذا هو التوسّل الصحيح وغيره قد يوقع صاحبه في الشرك، فلا تحم حوله.
رابعا:
وأمّا قولك "كنّا نقيم الزردات والوعدات كلما اشتدّت بنا المحن"
فإنّ هذه الزردات كانت من آثار غفلتنا منافية ليقظتنا وكان علماؤنا رحمهم الله
يسمونها (أعراس الشيطان)، لما يقع فيها من سفه وتبذير وعهر وخمر واختلاط
وفجور، وإنّما كان يشّد إليها الرحال من تونس حتّى المغرب الغافلون منّا المستهترون
بالدين والأخلاق ممن نامت ضمائرهم وكانت من أعظمها زردة (سيدي عابد)
بناحيتكم، يأتيها الفسّاق من تونس والمغرب وما بينهما، وسل الشيوخ عن الأحياء
ينبئونك، وكانت هذه الزردة كثيرة لأنّ لكلّ قوم لإلههم من أصحاب القبور من حدود
تبسة إلى مغنية، كانت القبور تعبد من دون الله ولكلّ قوم من يقدسونه. فـ (سيدي سعيد)
في تبسة، و (سيدي راشد) في قسنطينة و (سيدي الخير) بالسطيف و (سيدي بن حملاوي)
بالتلاغمة، و (سيدي الزين) بسكيكدة و (سيدي منصور) بولاية تيزي وزو
و (سيدي محمد الكبير) في البليدة، و (سيدي بن يوسف) بمليانة و (سيدي الهواري)
بوهران و (سيدي عابد) بغليزان و (سيدي بومدين) بتلمسان و (سيدي عبد الرحمن)
بالجزائر ويزاحمه (سيدي امحمد) وليعذرني الإخوة ممن لم أذكر آلهة بلدانهم وهم ألوف.
ففعل هؤلاء القوم مع هؤلاء المشايخ يشبه فعل الجاهلية مع هبل
واللات والعزّى وخصوصا إقامة الزردة حولها والذبح لها والتمسح بالقبور،
أفترانا نحيي آثار الشرك ونحن الموحدون؟
لقد وقف العلماء وقفة صادقة ضدّ هذه المناكير في الزرد، لا فرق بين علماء
الإصلاح وغيرهم ممن كان يناصر جمعية العلماء ومن كان خارجها حتّى قضوا
على الزردة وساء ذلك الدوائر الاستعمارية فأرادت أن تحييها وتحافظ عليها،
وفي علمي أنّ آخر زردة قسنطينة، أقامها سياسي فشل في سياسته الإدماجية
فعادى العلماء واتّهمهم وأقام زردة بثيران المعمون وأخرافهم وأين مدينة قسنطينة
عرين أسد الإصلاح لكنّه دفن نفسه ولم تقم له قائمة.
فمن يريد أن يسير اليوم بإحياء الزردة والوعدة فبشره بخيبة تصيبه مثل
خيبة الأمس فأحذر يا صاحب السؤال.
خامسا:
ثم إنّ الطعام واللحم المقدّم في الزردة لا يحلّ أكله شرعا لأنّه مما نصّ القرآن
¥