في عام 1209 من هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم توفي كبير قضاة اليمن، القاضي يحيى بن صالح الشجري السحولي، وكان مرجعَ العامة والخاصة، وعليه المعوَّل في الرأي والأحكام، ومستشار الإمام والوزارة (32).
قال الشوكاني:
" وكنتُ إذ ذاك مشتغلاً بالتدريس في علوم الاجتهاد والإفتاء والتصنيف منجمعاً عن الناس لا سيما أهل الأمر وأرباب الدولة، فإني لا أتَّصِل بأحدٍ منهم كائنًا من كان، ولم يكن لي رغبة في غير العلوم ... فلم أشعر إلا بِطلابٍ لي من الخليفة بعد موت القاضي المذكور بنحو أسبوع، فعزمتُ إلى مقامه العالي، فذكر لي أنه قد رجح قيامي مقام القاضي المذكور، فاعتذرتُ له بما كنت فيه من الاشتغال بالعلم، فقال: القيام بالأمرين ممكنٌ، وليس المراد إلا القيام بفَصْل ما يصل من الخصومات إلى ديوانه العالي في يَوْمَي اجتماع الحكام فيه. فقلت: سيقع مني الاستخارة لله والاستشارة لأهل الفضل، وما اختاره الله ففيه الخير. فلمَّا فارقته ما زلتُ مُتردِّدٍا نحو أسبوع، ولكنَّه وفد إليَّ غالبُ مَنْ ينتسب إلى العلم في مدينة صنعاء، وأجمعوا على أن الإجابة واجبة، وأنهم يخشوْن أن يدخل في هذا المنصب ـ الذي إليه مرجِعُ الأحكام الشرعية في جميع الأقطار اليمنية ـ مَنْ لا يُوثَقُ بدينه وعلمه. فقبلتُ مستعيناً بالله ومتّكلاً عليه. وأسأل الله بحَوْلِه وطوْله أن يرشدني إلى مراضيه، ويحول بيني وبين معاصيه، وييسِّر لي الخير حيث كان، ويدفع عني الشر،
ويُقيمني في مقام العَدْل، ويختار لي ما فيه الخير في الدين والدنيا " (33).
قلتُ: وربَّما أن الشوكاني رأى في منصب القضاء فرصةً لنَشْر السُّنَّة وإماتة البدعة، والدعوة إلى طريق السلف الصالح.
كما أن منصب القضاء سيصدُّ عنه كثيراً من التيارات المعادية له، ويسمح لأتباعه بنَشْر آرائه السديدة، وطريقته المستقيمة.
" والأئمة الثلاثة الذين تولى الشوكاني القضاء الأكبر لهم، ولم يُعزل حتى واتته المنية هم:
1ـ المنصور علي بن المهدي عباس، ولد سنة 1151ه، وتوفي سنة 1224ه. ومدة خلافته 25 سنة.
2ـ ابنه المتوكل علي بن أحمد بن المنصور علي، ولد سنة 1170ه، وتوفي سنة 1231ه. ومدة خلافته نحو 7 سنوات.
3ـ المهدي عبدالله، ولد سنة 1208 ه، وتوفي 1251 ه، ومدة خلافته 20 سنة " (34).
قلتُ: كان تولِّي الشوكاني القضاء كسباً كبيراً للحقِّ، فقد أقام سوق العدالة بيِّنًا، وأنصف المظلوم من الظالم، وأبعد الرشوةَ، وخفَّف من غُلَوَاء التَّعصب، ودعا الناس إلى اتِّباع القرآن والسنة.
إلا أن هذا المنصب قد منعه من التحقيق العلمي، يظهر ذلك إذا ما تتبَّع المرءُ مؤلفاته قبل تولِّيه القضاء وبعده، يجد الفَرْق واضحًا.
* شيوخه:
كان الشوكاني طلعة يبحث عن العلم والمعرفة في المظان المختلفة، ويتنقل بين المشايخ بحثاً عن المعرفة، الأمر الذي يجعل البحث عن كل شيوخه عسيراً، وسوف نكتفي هنا بذكر بعض مشايخه المشهورين، فمنهم:
1ـ والده: علي بن محمد بن عبدالله بن الحسن الشوكاني المتوفى سنة 1211ه (35).
فقد تولى ولده بالعناية والرعاية منذ الطفولة، فحفظه القرآن وجوده له، كما حفظه عدداً من المتون ومبادىء العلوم المختلفة، قبل أن يبدأ طلب العلم على غير والده من علماء عصره.
وكان لهذه العناية المبكرة أثرها البارز في بناء شخصية الشوكاني.
2ـ أحمد بن محمد بن أحمد بن مطهر القابلي (1158 ـ 1227ه) (36).
قال الشوكاني في ترجمته:
" وقد لازمتُه في الفروع نحو ثلاث عشر سنة، وانتفعتُ به، وتخرَّجت عليه، وقرأت عليه في: " الأزهار " و " شرحه " و " حواشيه " ثلاث دفعات: الدفعتين الأوليين اقتصرنا على ما تدعو إليه الحاجة، والدفعة الثالثة استكملنا الدَّقيق والجَّليل من ذلك مع بحثٍ وتحقيق، ثم قرأت عليه " الفرائض " للعصيفري، و " شرجها " للنَّاظري، وما عليه من الحواشي، وقرأتُ عليه " بيان ابن مظفر " و " حواشيه "، وكانت هذه القراءة بحثٍ وإتقانٍ وتحرير وتقرير " (37).
3ـ أحمد بن عامر الحدائي (1127ـ 1197ه = 1715ـ 1783م).
قرأ عليه: " الأزهار " و " شرحه " مرتين، و " الفرئض " مرتين.
4ـ أحمد بن محمد الحرازي المولود سنة 1158ه والمتوفي سنة 1227ه (38).
¥