وإن مما يحبب الناس في دين الله أن يعرفوا وسطيته هذه، وأن الاستعداد للموت والتزين للقاء الله ليس مشروطاً بهجر الدنيا ورميها جانباً، بل لكل وقت عمله، والحياة مجموعة من الأولويات، تبرز كل أولوية في وقتها المناسب.
ثم إن النداء بـ» حي علي الصلاة، حي على الفلاح «إيذان بانطلاق جولة جديدة من معركة الإنسان مع الشيطان، فهذا العدو سيسعى جهده ليصده عن ذكر الله وعن الصلاة وإجابة النداء والذهاب إلى المسجد معناه كسب هذه الجولة الجديدة وتحقيق الانتصار فيها، فالأذان يصل إلى الجميع، ولكن الناس يختلفون: فمنهم منتصر ومنهم منهزم، فواحد يسمعه فيدع ما كان فيه ويجيب النداء، وآخر يصلي في بيته في الوقت، وثالث يؤخرها عن وقتها، ورابع يتركها ولا يصليها، وبهذا يستخرج الأذان ما في القلوب من إيمان، أو كفر ونفاق، ويكشف لكل عبد درجة إيمانه؛ فإن الإيمان يعرف عند الطاعات ((قَدْ أَفْلَحَ المُؤْمِنُونَ الَذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشعون)) [المؤمنون: 1] ((وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ)) [المؤمنون: 9].
والناس عندما يسمعون» حي على الصلاة حي على الفلاح «تحضرهم صور مختلفة لهذه الصلاة التي يُدْعَون إليها، فكل واحد تحضره صورة معينة قد تكون موافقة لصورتها في دين الله، وقد يكون بين الصورتين تباعد وتنافر.
والصلاة في دين الإسلام هي الركن الثاني الذي لا يصح إسلام المسلم إلا بها، وهي توبة متجددة، وطهارة ظاهرة وباطنة وقوة روحية وبدنية ومناجاة بين العبد وربه، وهي كفارة للذنوب، وتذكرة بلقاء الله يوم القيامة، وشرط من شروط النجاة والفلاح في ذلك اليوم.
فمن وافقت صورة الصلاة في نفسه صورتها في دين الله، فإنه يُعَظّمُ قدرها ولايسهو عن وقتها: ((فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ)) [الماعون: 4، 5].
الله أكبر الله أكبر:
هذا النداء الذي افتتح به الأذان واختتم به، فيه تكبير الله (عز وجل)، فهو (سبحانه) ((عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الكَبِيرُ المُتَعَالِ)) [الرعد: 9] وحيث إن الصلاة دعوة منه (سبحانه) ينقلها المؤذن عبر الأذان؛ ناسب افتتاحها بالتكبير ليعلم الناس أن الله (تعالى) أكبر من كل شيء يَصدّهم عن دعوته، أو يشغلهم عن إجابة ندائه ((يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ المَلِكِ القُدُّوسِ العَزِيزِ الحَكِيمِ)) [الجمعة: 1].
الأذان معانٍ ومواقف:
وكما يشدنا الأذان إلى كلماته، يشدنا إلى تاريخه، فتاريخه هو تاريخ الإسلام في الأرض، وهو تاريخ التوحيد في صراعه مع الشرك.
لما فتح رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مكة، وطهر البيت من الأصنام التي فيه وفيما حوله، دعا مؤذنه بلالاً، وأمره أن يصعد على الكعبة ويؤذن، فارتقى (رضي الله عنه)، ورفع صوته بالأذان، فكان هذا الأذان أبلغ رسالة لقريش تخبرها بمواصفات العهد الجديد.
ولقد قال أحد المشركين ـ وهو يسمع الأذان ويرى بلالاً يجهر به فوق الكعبة ـ:» أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً؟ «وقال آخر:» الحمد لله الذي قبض أبي قبل أن يرى هذا اليوم «فكانت كلمات هذين المشركين تلخيصاً لما دافعت عنه قريش مدة عشرين عاماً، ولكن الحق إذا جاء زهق الباطل، ولقد كانت تلك الأصنام قبل قليل آلهة تعبد، أما الآن فالله أكبر ولا إله إلا الله.
وارتبط الأذان في فترة النبوة باسم بلال وإن كان لرسول الله مؤذنون آخرون، ولما توفي النبي -صلى الله عليه وسلم- امتنع بلال عن الأذان ولحق بالشام مجاهداً ومرابطاً في سبيل الله، فلما فتح المسلمون مدينة دمشق وذهب عمر (رضي الله عنه) يزورها، توسل رؤساء القوم إلى بلال ـ وكان حاضراً ـ أن يؤذن فأذن إكراماً لمقدم أمير المؤمنين، فما رؤي أحد إلا وهو يبكي؛ لأن صوته ـ الذي انقطع عنهم أكثر من اثني عشر عاماً ـ ذكرهم بأيام عزيزة عندما كان يؤمهم سيد الخلق (عليه الصلاة والسلام)، فقد كان المسلمون إذا فتحوا بلداً بنوا به المساجد، ورفعوا فيها الأذان، وأقاموا فيها الصلاة، وجلسوا بها لتعليم العلم.
¥