والمنهج الرباني هو الذي يرسم خطوط هذا الواقع الحيوي ويرسم تفصيلاته.
والشمول والترابط والتوازن هي أبرز سمات المنهج الرباني.
شمول لكل جوانب الإنسان والحياة البشرية، وربط وثيق بينها، وموازنة بين شتى جوانبها.
وتلك عظمة الإسلام، وتلك مزيته على المناهج الجاهلية التي تحكم حياة الناس في معزل عن العقيدة الصحيحة، أي في معزل عن لا إله إلا الله، والتي يشملها قوله تعالى:
(أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) ().
وحكم الله ليس مقصورا على إقامة الحدود، كما أن حكم الجاهلية ليس مقصورا على القوانين التي يتحاكم الناس إليها في المحاكم .. إنما حكم الله شامل لكل صغيرة وكبيرة في حياة الإنسان، سواء كان مما يصل إلى القضاء أو لا يصل إليه، بل سواء كان عملا ظاهرا أو نية مضمرة في الضمير. وكذلك حكم الجاهلية ليس محصورا في تلك القوانين التي تحكم المخالفات والجنح والجنايات، أو المعاملات المدنية أو المعاملات التجارية .. الخ .. إنما هو كذلك نظم ومؤسسات وأفكار وسلوك ومشاعر، قائمة كلها بمعزل عن لا إله إلا الله، وعن الاستمداد من منهج الله.
ومن ثم فإن الحضارة وعمارة الأرض ذات صلة وثيقة بلا إله إلا الله، والمنهج المنزل من عند الله ليحكم الحياة.
* * *
إن المفهوم الإسلامي للحضارة هو مفهوم العبادة ..
هو تحقيق غاية الوجود الإنساني التي حددها قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ().
هذه هي الغاية .. وذلك هو المعيار ..
تحقيق غاية الوجود الإنساني هو الذي تنشأ عنه الحضارة في الواقع البشري. وهو المعيار الذي تقوّم به صعودا أو هبوطا، واستقامة أو انحرافا.
وحين تختلف النظرة إلى غاية الوجود الإنساني تختلف النظرة إلى الحضارة، وتختلف النظرة كذلك إلى التاريخ.
فحين تكون غاية الوجود الإنساني هي الفناء في الكائن الأعظم كما تقول " النرفانا "، أو الخلاص من ربقة الجسد وإطلاق الروح لتتحد مع الخالق .. تصبح الحضارة هي تحقيق عالم الروح على حساب الجسد، وعلى حساب الجانب المادي من عمارة الأرض.
وحين تكون غاية الوجود الإنساني هي الاستمتاع بما في الأرض من متاع، بصرف النظر عن القيم المصاحبة لهذا المتاع من حلال وحرام، وخير وشر، وفضيلة ورذيلة، ورفعة وانتكاس .. تكون الحضارة هي العمارة المادية للأرض، وهي تيسير الحياة الأرضية وتزيينها، والانكباب على متعها ولذائذها، وتكون في الوقت ذاته هي محاولة التغلب على الآخرين للاستئثار بأكبر قدر من المتاع، ومحاولة إخضاعهم بالقوة والقهر، سواء بالقوة المادية أو القوة العسكرية أو القوة السياسية أو القوة الاقتصادية أو القوة العلمية .. أو كلها جميعا ..
وحين تكون الغاية هي عبادة الله - على المعنى الواسع الشامل للعبادة الذي بيناه من قبل () - يكون مفهوم الحضارة مختلفا عن هذا المفهوم وذاك، وكذلك يكون تفسير التاريخ، لأن المعيار الذي يقوم على أساسه التفسير، هو مدى تحقيق الإنسان لغاية وجوده، ومدى تفوقه أو تخلفه في تحقيق هذا الوجود.
* * *
سبق أن بينا في فصل مفهوم العبادة أن الله - من رحمته - جعل النشاط الطبيعي للإنسان في جميع مجالاته: الجسدية والعقلية والروحية عبادة ما دام يتوجه به الإنسان إلى الله، ويستمد فيه من منهج الله. بل إنه - سبحانه - قد جعل ذلك النشاط هو هو العبادة المطلوبة من الإنسان، والتي انحصرت غاية وجوده في أدائها.
وهذا النشاط ذاته هو الذي ينشئ الحضارة .. وما الحضارة إلا منجزات ذلك النشاط البشري في مختلف المجالات.
وحين ندقق في الأمر فليس كل نشاط للجسد أو العقل أو الروح يشكّل حضارة، أو يكون جزءا من الحضارة - وهذا أمر واضح بالبداهة - إنما هو النشاط الهادف، الذي يهدف إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني.
فالمشي في الأرض أو الحفر فيها لا يشكل في ذاته نشاطا حضاريا. ولكن المشي الهادف، الذي يهدف مثلا إلى كشف مجاهل الأرض لسكناها وعمارتها، والحفر الهادف لإخراج كنوز الأرض وتصنيعها من أجل تلك العمارة، هذا هو الذي يمكن أن يشكل حضارة، أو يكون جزءا من حضارة.
¥