تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

وكذلك نشاط العقل ونشاط الروح، يشترط فيهما لكي يشكلا حضارة أن يكونا هادفين، وأن يكون هدفهما في الوقت ذاته متجها إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني، وليس معاكسا لهذا الاتجاه.

ومن هنا نستطيع أن نقول - واثقين - أن ما تنتجه الجاهليات من منجزات مادية أو عقلية (أو روحية أحيانا) ليس حضارة حقيقية، وإن بدا رائعا وضخما أحيانا، وإن بهر أعيننا لأول وهلة، لأنه يفقد هذا الشرط الأساسي الذي يجعل من النشاط البشري والمنجزات البشرية حضارة، وهو أن يكون هدفها متجها إلى تحقيق غاية الوجود الإنساني، وليس معاكسا لهذا الاتجاه.

إن تحقيق الجانب الروحي للإنسان وحده، على حساب الجانب الحسي والمادي، وفي عزلة عنه، لا يحقق غاية الوجود الإنساني كاملة كما بينها المنهج الرباني. وإن تحقيق الجانب الحسي والمادي من الإنسان والحياة البشرية على حساب الجانب الروحي وفي عزلة عنه، لا يحقق كذلك غاية الوجود الإنساني، بل يتجه به إلى الدمار والبوار .. ومن ثم فكلاهما لا يشكل حضارة بالمفهوم الصحيح للحضارة. أو إنه يشكل " حضارة جاهلية " إن صح هذا التعبير.

كما أن اجتماع الجانبين معا ولكن على غير قاعدة صحيحة - كما حدث في الجاهلية الفرعونية التي شملت عالم المادة وعالم الروح، ولكن على قاعدة تأليه الفرعون والعبودية له من دون الله - لا يشكل كذلك حضارة بالمفهوم الصحيح. أو إنه - كما أسلفنا - يشكل حضارة جاهلية إذا قبلنا هذا الاصطلاح.

إنما الحضارة الصحيحة هي التحقيق السوي لغاية الوجود الإنساني في الأرض، التي حددها قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) () وفسرها قوله تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ) (). وهي في المفهوم الإسلامي شيء شامل لكل النشاط الهادف للإنسان.

إن الصلاة والنسك جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة، بمدلولهما الحقيقي، ومقتضاهما الحقيقي ().

وإن إقامة شريعة الله في الأرض، والحكم بما أنزل الله، وهو المقتضى المباشر للا إله إلا الله، جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة.

وإن إقامة العدل الرباني في الأرض كما أراده الله أن يكون، وأخرج هذه الأمة لتقيمه، وقال لها سبحانه في توجيهاته لها وإعداده إياها لحمل هذه الأمانة الكبرى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) () وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) () .. إن إقامة العدل الرباني على هذه الصورة جزء من المفهوم الإسلامي للحضارة.

وإن إقامة الحياة كلها - بكل ألوان النشاط فيها - على قاعدة أخلاقية مدارها تقوى الله وخشيته .. فتكون السياسة ذات أخلاق قائمة على حكم ولي الأمر بشريعة الله، والسمع والطاعة من الأمة لولي الأمر فيما يأمر به موافقا لشريعة الله، والنصح لله ورسوله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان، وإقامة الأمر على الشورى التي أمر بها الله .. ويكون الاقتصاد له أخلاق، قائمة على الالتزام بما أحله الله، وتحريم ما حرم الله من ربا واحتكار وغش وسلب ونهب، وسرقة وغصب، وأكل مال الأجير، وأكل أموال الناس بالباطل، وقائمة على تطهير المال بأداء الزكاة، والإنفاق في سبيل الله، وعدم الإنفاق في ترف أو سرف أو معصية أو مخيلة .. وتكون علاقات المجتمع ذات أخلاق قائمة على التواد والتحاب والتكافل، والتعاون على البر والتقوى، وحرمة الدم والعرض والمال، وكظم الغيب والعفو عن الناس، والكف عن الغمز واللمز والغيبة والنميمة والتجسس والاطلاع على العورات .. وتكون علاقات الأسرة ذات أخلاق .. وعلاقات الجنسين ذات أخلاق .. إن إقامة الحياة

¥

تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير