وإذ قد تبيّن أنّ الغالب في التصدِّي للقراءة بمركز الإذاعة هو حصول النفع بها الذي يغتبط به جمهور المسلمين، وكان من النادر إفضاء ذلك إلى ظهور صوت القارئ في مواضع قد توجد فيها حالة تقتضي حكم مخالفة الأولى أو الكراهة أو الحرمة ولو عن غفلة من بعض السامعين، وبعض تلك الأحوال أندر من بعض، كان ذلك الإفضاء من قبيل الذريعة الملغاة في الشريعة لندرة ترتُّب المنهي عنه عليها إذا نسبناه لما يترتب عليها من المنافع، إذ قد قرَّر أئمة أصول الفقه والفقه أن ليس كل ذريعة يجب سدّها، فإنّ الشريعة ألغَت ذريعة غراسة العنب مع أنها ذريعة لعَصْر الخمر، وألغت ذريعة التجاور في البيوت مع أنها تكون ذريعة للزنا، وألغت ذريعة حفر الآبار مع أنها يتردّى فيها الناس والحيوان، فإنّ حكم الذريعة إلى الفساد إن لم تكن فيها مصلحة غير حكم الذريعة المشتملة على مصلحة وهي تفضي إلى مفسدة، ويتدرّج النظر حينئذٍ في مراتب المصالح والمفاسد، وحينئذٍ فيقتصر حكم التحريم أو الكراهة على الصورة الواقع فيها بسبب الكراهة أو التحريم عند وقوعها ويخاطب بالمؤاخذة عليها، فتعين أن يكون القارئ غير ممنوع من القراءة لأجل خلوّ بعض السامعين لصوته عن آداب سماع القراءة، وتأخذ أحوال السامعين أحكامها المناسبة لها كما سيأتي. وقد قال الحسن البصري: لو تركنا الطاعة لأجل المعصية لأسرع ذلك في ديننا. قال ابن عرفة: أي لأسرع في ديننا النقص والاختلال.
وأمّا ما عسى أن يقع من تقطيع بعض كلمات القرآن أو الفصل بين آياته باضطراب الجو أو بغلبة بعض الأصوات التي تدخل في أمواج الجو فتغلب على صوت القارئ، فلا مؤاخذة فيه على القارئ؛ إذ ليس ذلك من فعله.
وأمّا المبحث الثاني ففي حكم التصدِّي لسماع قراءة القرآن من آلة المذياع، والسامع لا يخلو عن أن يكون مسلماً أو غير مسلم: فالسامع المسلم إذا كانت الآلة التي يسمع منها في محل لائق لأن يقرأ فيه القرآن فسماعه أمر حسن كما تقدم، والمسلمون عند سماع القرآن مراتب كثيرة متفاوتة في الفضل بمقدار التفاوت في حضور القلب ومراعاة الآداب، وفي تدبر معاني القرآن والاستنباط منها لمن هو أهل لذلك، وفيما يحصل من الخشية والعظة لمن وفّقه الله لذلك. وقد أشار السائل إلى آيات من القرآن مقصود منها أعلى تلك المراتب، ولا يخلو مسلم من أن يحصل له خير عند سماع القرآن، فإن كان السامع في محل غير لائق بقراءة القرآن - وعدم اللياقة أيضاً متفاوت بين ما هو على خلاف الأولى وبين ما هو على الكراهة وما هو على الحرمة - فينبغي في مواضع الانبغاء، أو يجب في مواضع الوجوب أن يقطع السامع الاتصال الجوي بينه وبين المركز الذي يأتي منه صوت قارئ القرآن إلى أن يتحقق انقضاء القراءة أو تبدّل حالة المحل. وأحسب أنّ معظم المسلمين يتوقَّون سماع قراءة القرآن في هذه الأحوال، فإن كان منهم من يجهل أو يذهل فيجب على المسلمين أن يذكِّر بعضهم بعضاً.
وأمّا السماع في حالة تقطيع بعض كلمات القرآن أو الفصل بين بعض آياته بسبب غَلَبَة بعض الأصوات فذلك لا مؤاخذة على السامع منه ولا يوجب منع سماعه، لأنه ينتفع بسماع ما سلم من ذلك. ومثل هذا ما يعرِض لسامع القرآن من الخروج عن مجلس القراءة، ثم يرجع فيجد القارئ قد تجاوز الآيات التي تركه عندها.
وأما السامع غير المسلم فإن كان يفهم العربية فسماع القرآن يرشده إلى مزايا الإسلام ويقرِّبه منه، وقد أجاز مالك أن يقرأ القرآن على غير المسلم رجاء اهتدائه إلى الإسلام. وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على المشركين في مكة وفي المدينة. وليس في القرآن إلا ما هو هدى وتنوير للقلوب التي قُدِّر لها أن تحلّ فيها الهداية، وكله مما يحق للمسلم أن يفتخر به، فإن فرضنا أن يكون سامع غير مسلم مطبوعاً على السُّخرية بما لا موجب فيه فذلك نزَق منه لا يؤاخذ به غيره، ولا يُعتدّ به في تشريع الأحكام. وإن كان غير المسلم لا يفهم العربية فمرور تلك القراءة على سمعه كمرور الصوت على من يمشي في الطريق لا يعبأ به ولا يفهمه. وهذا في الغالب يعدل عن سماعه إلى سماع ما هو أعنى.
هذا ما لاح لي في جواب سؤال السائل أفتيتُ به، وأنا محمد الطاهر ابن عاشور شيخ الإسلام المالكي، لطف الله به.
في 21 ربيع الثاني، وفي 11 جويلية سنة 1355هـ - 1936م
الإمام محمد الطاهر بن عاشور صاحب تفسير (التحرير والتنوير) رحمه الله
ـ[المقرئ]ــــــــ[21 - 03 - 05, 10:35 م]ـ
أعتقد أن المسألة لم يحرر فيها محل النزاع فما هو التغني المسؤول عنه
فمثلا: هل قراءة الشيخ المنشاوي أو عبد الباسط أو الحصري أم رفعت أم غيرهم من المقرئين المجيدين داخلة في سؤالك؟ فالحكم على شيء فرع عن تصوره
المقرئ
ـ[ابن وهب]ــــــــ[22 - 03 - 05, 12:21 ص]ـ
(اصطلح استخدام لفظ (التلحين) بمعنى تغيير التشكيل، فيُنصب الفاعل مثلا ..
و لذا لا تلحين فيما تسمعه في تلك الإذاعة)
سبحان الله
¥