- قول الشيخ أحمد القصير في هذه المسألة: ((الترجيح: الذي يظهر – والله أعلم – أن هاروت وماروت كانا ملكين من ملائكة السماء أنزلهما الله – عز وجل – إلى الأرض فتنة للناس وامتحاناً، وأنهما كانا يعلمان الناس السحر بأمر الله – عز وجل - لهما.
ولله تعالى أن يمتحن عباده بما شاء كما امتحن جنود طالوت بعدم الشرب من النهر في قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (259)}
وكما امتحن عباده بخلق إبليس وهو أصل الشر، ونهى عباده عن متابعته وحذر منه.
برهان ذلك:
1 - قوله تعالى في الآية: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}
فالضمير في قوله: {يُعَلِّمَانِ} وقوله: {مِنْهُمَا} عائد على الملكين؛ لأنهما أقرب مذكور، ولأنه ورد بصيغة التثنية فهو مبدل منهما.
وفي قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} دليل واضح على أنهما كانا يعلمان السحر، وإلا فما فائدة تحذيرهما من ذلك؟!
وهذا الذي قلنا هو الظاهر المتبادر من السياق، وهو أولى ما حملت عليه الآية. فإن قيل: إن تعليم الملكين للسحر كفر، لقوله تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}
وهذا فيه قدح بعصمتهم لأنه لا يجوز عليهم تعليم السحر؟
فجوابه:
أنه ليس في تعليم الملكين للسحر كفر، ولا يأثمان بذلك؛ لأنه كان بإذن الله لهما، وهما مطيعان فيه، وإنما الإثم على من تعلمه من الناس، وقد أخبر سبحانه بأن الملكان كانا ينهيان عن تعلمه أشد النهي، حيث قال: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ}.
وقد بينا من قبل، أن لله سبحانه أن يبتلي عباده بما شاء، ومن ذلك ابتلائهم بملكين يعلمانهم السحر، والله تعالى أعلم)).
انتهى المقصود من بحثه وفقه الله.
- لي عليه تعقب:
وهو أنَّ الأدلة التي ذكرها الشيخ غير صريحة كما بيَّنت ذلك في التعقيب (14 - 15).
من أنَّ الآية لم تنصَّ صرحةً على أنَّ الذي أنزل على الملكين هو السحر المحرم المكفر، ولا أنَّ الذي أنزله عليهما هو الله تعالى.
- ولو وجد دليل على كون المنزَّل عليهما هو السحر فلعل أقرب الأقوال الدافعة لإشكال تعليمهما إياه ما تقدَّم نقله عن علي 1 - رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ - أنه قال: ((الملكان يعلمان تعليم انذار لا تعليم طلب)).
@ قال أبو عمر: وكلام القرطبي الذي تقدم نقله يثير الإشكالات التي تمنعنا من الجزم (بلا دليل صريح) على كون الذي علمه الملكان هو السحر المحرم المكفر، وأنَّ الذي أمرهما به هو الله تعالى.
@ قال القرطبي في تفسيره - فيما تقد م نقله - عند كلامه على مرويات هذه القصة: " قلنا: هذا كله ضعيف، وبعيد عن ابن عمر وغيره، لا يصح منه شئ.
فإنه قول تدفعه الأصول في الملائكة الذين هم أمناء الله على وحيه، وسفراؤه إلى رسله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يسبحون الليل والنهار لا يفترون.
وأما العقل فلا ينكر وقوع المعصية من الملائكة، ويوجد منهم خلاف ما كلفوه، ويخلق فيهم الشهوات.
إذ في قدرة الله تعالى كل موهوم، ومن هذا خوف الأنبياء والأولياء الفضلاء العلماء.
لكن .. وقوع هذا الجائز لا يدرك إلاَّ بالسمع ولم يصح! ".
- قال أبو عمر: فنحن مازلنا ننشد دليلاً صريحاً صحيحاً في ترجيح القول الذي تقدم ترجيحه من الشيخ القصير.
إذ لو ثبت الدليل لأمكن قبول الأجوبة الذتي ذكرها عن الإشكالات التي تقدم ذكرها، وبالله تعالى التوفيق.