ولهذا لما بينت لطوائف من أتباعهم ورؤسائهم حقيقة قولهم، وسر مذهبهم، صاروا يعظمون ذلك، ولولا ما أقرنه بذلك من الذم والرد لجعلوني من أئمتهم، وبذلوا لي من طاعة نفوسهم وأموالهم ما يجل عن الوصف، كما تبذله النصارى لرؤسائهم، والإسماعيلية لكبرائهم، وكما بذل آل فرعون لفرعون.
وكل من يقبل قول هؤلاء فهو أحد رجلين: إما جاهل بحقيقة أمرهم، وإما ظالم يريد علوًا في الأرض وفسادًا، أو جامع بين الوصفين، وهذه حال أتباع فرعون الذين قال الله فيهم: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54]
وحال القرامطة مع رؤسائهم.
وحال الكفار والمنافقين في أئمتهم الذين يدعون إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا}
إلى قوله: {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} [الأحزاب: 64 - 68] وقال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَادًا} إلى قوله: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ} [البقرة: 165 - 167].
فصل:
حقيقة قول هؤلاء: أن وجود الكائنات هو عين وجود الله تعالى ليس وجودها غيره ولا شيء سواه البتة، ولهذا من سماهم حلولية أو قال: هم قائلون بالحلول رأوه محجوبًا عن معرفة قولهم، خارجا عن الدخول إلى باطن أمرهم؛ لأن من قال: إن الله يحل في المخلوقات، فقد قال بأن المحل غير الحال، وهذا تثنية عندهم وإثبات لوجودين:
أحدهما: وجود الحق الحال.
والثاني: وجود المخلوق المحل، وهم لا يقرون بإثبات وجودين البتة.
ولا ريب أن هذا القول أقل كفرًا من قولهم، وهو قول كثير من الجهمية الذين كان السلف يردون قولهم، وهم الذين يزعمون أن الله بذاته في كل مكان. وقد ذكره جماعات من الأئمة والسلف عن الجهمية وكفروهم به، بل جعلهم خلق من الأئمة ـ كابن المبارك ويوسف بن أسباط وطائفة من أهل العلم والحديث من أصحاب أحمد وغيره ـ خارجين بذلك عن الثنتين والسبعين فرقة. وهو قول بعض متكلمة الجهمية وكثير من متعبديهم.
ولا ريب أن إلحاد هؤلاء المتأخرىن وتجهمهم وزندقتهم تفريع وتكميل لإلحاد هذه الجهمية الأولى وتجهمها وزندقتها.
ـ[أبو فراس فؤاد]ــــــــ[06 - 09 - 05, 03:38 م]ـ
المسألة الخامسة:
مما سبق يتبين أن مراد ابن تيمية رحمه الله بـ"الحولية الجهمية" غير مراده بالحولية المحضة لجزمه بتكفير هؤلاء وامتناعه عن تكفير الأولين.
إذا ثبت هذا فإن الهمة حينئذ تنشط للبحث عن هذا مقصود هذا الإمام بـ " الحولية الجهمية " ونقاط الاتفاق والافتراق مع " الحلولية المحضة " ومع " الجهمية النفاة "
والمتتبع لكلامه رحمه الله يجد أنه كثيرا ما يعبر ب الجهمية النفاة أو نفاة الجهمية انظر ص (2/ 336) (5/ 64 - 175 - 187 - 183 - 310 - 553)
(6/ 34 - 217
ويعبر كذلك بالحلولية الجهمية وإن كان هذا التعبير أقل من ألأول (2/ 294 - 336) (8/ 414)
يظهر باديء ذي بدء أنهما اسمان متقابلان يتفرعان من جنس واحد فهم كلهم جهمية منهم حلولية ومنهم نفاة
ولعل الأمر كذلك فإن كل من نفى علو الله ومباينته لخلقه فإما أن يكون من النفاة يقول " لا داخل العالم ولا خارجه " وإما أن يكون قائلا بالحلول بأن الله ـ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا ـ بذاته في كل مكان.
قال ابن تيمية رحمه الله:
َأَصْلُ ضَلَالِ هَؤُلَاءِ: أَنَّهُمْ لَمْ يَعْرِفُوا مُبَايَنَةَ اللَّهِ لِمَخْلُوقَاتِهِ وَعُلُوَّهُ عَلَيْهَا وَعَلِمُوا أَنَّهُ مَوْجُودٌ فَظَنُّوا أَنَّ وُجُودَهُ لَا يَخْرُجُ عَنْ وُجُودِهَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ رَأَى شُعَاعَ الشَّمْسِ فَظَنَّ أَنَّهُ الشَّمْسُ نَفْسُهَا. وَلَمَّا ظَهَرَتْ الجهمية - الْمُنْكِرَةُ لِمُبَايَنَةِ اللَّهِ وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ - افْتَرَقَ النَّاسُ فِي هَذَا الْبَابِ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ: -
¥