وقد بنى أصحاب الرأي الأول رأيهم على أن هذه الأسهم ما دام فيها حرام، أو تزاول شركاتها بعض أعمال الحرام كإيداع بعضها بعض أموالها في البنوك الربوية فتصبح هذه الأسهم محرماً شراؤها، بناء على النصوص الدالة على وجوب الابتعاد عن الحرام، والشبهات، وعلى قاعدة: إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام.
أما المبيحون فهم يعتمدون على أن الأسهم في واقعها ليست مخالفة للشريعة، وما شابها من بعض الشوائب والشبهات والمحرمات قليل بالنسبة للحلال، فما دام أكثرية رأس المال حلالاً، وأكثر التصرفات حلالاً فيأخذ القليل النادر حكم الكثير الشائع، ولا سيما يمكن إزالة هذه النسبة من المحرمات عن طريق معرفتها من خلال الميزانية المفصلة، أو السؤال عن الشركة، ثم التخلص منها. (65)
ويمكن تأصيل ذلك من خلال القواعد الفقهية، ونصوص الفقهاء، المبنية على عموم الشريعة ومبادئها في اليسر، رفع الحرج على ضوء ما يأتي:
أولاً: اختلاط جزء محرم لا يجعل مجموع المال محرماً عند الكثيرين، حيث أجازوا في المال الحلال المختلط بقليل من الحرام التصرفات الشرعية من التملك والأكل والبيع والشراء ونحوها، غير أن الفقهاء فرقوا بين ما هو محرم لذاته وما هو محرم لغيره، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إن الحرام نوعان": حرام لوصفه كالميتة والدم ولحم الخنزير، فهذا إذا اختلط بالماء والمائع وغيره من الأطعمة، وغير طعمه، أو لونه، أو ريحه حرم، وإن لم يغيره ففيه نزاع ...
والثاني: الحرام لكسبه: كالمأخوذ غصباً، أو بعقد فاسد فهذا إذا اختلط بالحلال لم يحرمه، فلو غصب الرجل دراهم، أو دنانير أو دقيقاً، أو حنطة، أو خبزاً، وخلط ذلك بماله لم يحرم الجميع لا على هذا ولا على هذا بل إن كانا متماثلين أمكن أن يقسموه، ويأخذ هذا قدر حقه، وهذا قدر حقه.
فهذا أصل نافع، فإن كثيراً من الناس يتوهم أن الدراهم المحرمة إذا اختلطت بالدرهم الحلال حرم الجميع، فهذا خطأ، وإنما تورع الناس فيما إذا كانت –أي الدراهم الحلال- قليلة، أما مع الكثرة فما أعلم فيه نزاعاً ... (66)
وعلى ضوء ذلك فمسألتنا هذه من النوع الثاني حيث كلامنا في أسهم شابتها بعض تصرفات محرمة كإيداع بعض نقودها في البنوك الربوية، وحتى تتضح الصورة أكثر نذكر نصوص الفقهاء في هذه المسألة:
يقول ابن نجيم الحنفي: " إذا كان غالب مال المهدي حلالاً فلا بأس بقبول هديته، وأكل ماله ما لم يتبين أنه حرام، وإن كان غالب ماله الحرام لا يقبلها، ولا يأكل إلا إذا قال: إنه حلال ورثه، أو استقرضه " ثم ذكر أنه إذا أصبح أكثر بياعات أهل السوق لا تخلو عن الفساد والحرام يتنزه المسلم عن شرائه، ولكن مع هذا لو اشتراه يطيب له. وقال أيضاً: "إذا اختلط الحلال والحرام في البلد فإنه يجوز الشراء، والأخذ إلا أن تقوم دلالة على أنه من الحرام، كذا في الأصل" (67)
ثم ذكر صوراً أخرى فقال: "ومنها البيع، فإذا جمع بين حلال وحرام في صفقة واحدة، فإن كان الحرام ليس بمال كالجمع بين الذكية والميتة، فإنه يسري البطلان إلى الحلال لقوة بطلان الحرام، وإن كان الحرام ضعيفاً كأن يكون مالاً في الجملة كما إذا جمع بين المدبر والقن ... فإنه لا يسري الفساد إلى القن لضعفه ... " (68)
وقال الكاساني: "كل شيء أفسده الحرام، والغالب عليه الحلال فلا بأس ببيعه". (69)
وقد أفاض الفقيه ابن رشد في هذه المسألة، نذكر مها ما يلي: حيث قال: "فأما الحال الأولى: وهي أن يكون الغالب على ماله الحلال، فالواجب عليه في خاصة نفسه أن يستغفر الله _تعالى_، ويتوب إليه برد ما عليه من الحرام ... أو التصدق به عنهم إن لم يعرفهم ... وإن كان الربا لزمه أن يتصدق بما أخذ زائدًا على ما أعطى ... "
ثم قال: "وإن علم بائعه في ذلك كله رد عليه ما أربى فيه معه فإذا فعل هذا كله سقطت حرمته، وصحت عدالته، وبرئ من الإثم، وطاب له ما بقي من ماله، وجازت مبايعته فيه وقبول هديته وأكل طعامه بإجماع من العلماء".
واختلف إذا لم يفعل ذلك في جواز معاملته، وقبول هديته، وأكل طعامه، فأجاز ابن القاسم معاملته، وأبى ذلك ابن وهب وحرمه أصبغ ...
ثم قال ابن رشد: "وقول ابن القاسم هو القياس؛ لأن الحرام قد ترتب على ذمته، فليس متعيناً في جميع ما في يده من المال بعينه شائعاً ... وأما قول أصبغ فإنه تشديد على غير قياس".
¥