رضي الله عنهم! فإن المتبادل من لفظة: "الأئمة " إنما هم الأئمة الأربعة المجتهدون ولا يعلم عن أحد منهم أنهم اشترطوا الشرط المذكور ولا يليق ذلك بعلمهم لما يأتي، بل إن ظاهر ما تقدم ذكره – ص119 –121 - من قولهم بإباحة النظر إلى ذلك منهن ينافيه ولذلك لم يعرِّج على الشرط المذكور أحد كبار أتباع أبي حنيفة من المتأخرين، وهو محمد بن أحمد بن أبي سهل أبو بكر شمس الأئمة السرخسي المتوفى في حدود الخمسمئة الذي وصفه العلّامة اللكنوي في " الفوائد " (158) بـ:
" كان إماماً علّامة حجة متكلماً مناظراً أصولياً مجتهداً، عدّه ابن كمال باشا من المجتهدين في المسائل"
أقول: فالسرخسي هذا – مع إمامته – صرّح -تبعاً لأبي حنيفة وصاحبيه والطحاوي كما تقدم– بإباحة النظر إلى الأجنبيات مع أنه ذكر أن حرمة النظر لخوف الفتنة وأن الفتنة في النظر إلى وجهها أكثر منه إلى سائر أعضائها فقال في كتابه " المبسوط " (10/ 152 - دار المعرفة، بيروت):
"ولكنا نأخذ بقول علي (!) وابن عباس رضي الله عنهم فقد جاءت الأخبار في الرخصة بالنظر إلى وجهها وكفيها إذا لم يكن النظر عن شهوة فإن كان يعلم أنه إن نظر إشتهى لم يحلل له النظر إلى شيء منها".
قلت:" وقوله: " علي" لعله سبق قلم أو خطأ من الناسخ أو الطابع، فإنا لم نجد في الأخبار التي أشار إليها السرخسي شيئاً عن علي، وهي عن ستة من الصحابة وقد ذكرت أسماءهم فيما تقدم (ص103 - 104)، ومنهم عائشة وابن عمر، فأخشى أن يكون محرفاً من "عائشة"، و لفظ حديثها عن البيهقي (2/ 226):
" {ما ظهر منها}: الوجه والكفان ".
وإسناده ضعيف لكن له طريق أخرى عن ابن أبي شيبة وغيره، ويشهد له أثر ابن عمر بلفظ:
" الزينة الظاهرة: الوجه والكفان ".
أخرجه ابن شيبة (4/ 284) بسند صحيح عنه
ثم روى مثله عن ابن عباس وسنده صحيح أيضاً.
وأما تعليق الأخ الإسكندراني على قول السرخسي: "علي وابن عباس" بقوله (3/ 420):
"يشير إلى ما روي عنهما رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {إلا ما ظهر منها}: بأنه الكحل والخاتم وقد بين الإيمان أكمل الدين البابرتي الحنفي في "شرح العناية على الهداية" أن دلالة قولهما على الوجه والكفين غير واضح قال:
"إذ الظاهر أن موضع الكحل هو العين لا الوجه كله وكذا موضع الخاتم هو الإصبع لا الكف كله والمدعى جواز النظر إلى وجه الأجنبية كله والى كفيها بالكلية ".اهـ. (10/ 24) ".
فأقول: هذا التعليق والاستظهار الذي فيه خطأ من وجوه:
أولاً: أنه قائم على أن الزينة المذكورة في الآية هي الزينة نفسها وليس موضعها وهذا خطأ مخالف لما عليه المحققون من المفسرين وغيرهم – كما تقدم (صفحة 27 - 32) -ولا أدل على ذلك من أنه لا قائل بأنه لا يجوز للمرأة أن تظهر حليها للأجنبي وهي ليست على بدنها كما لا قائل بالعكس أي أن تظهر مواضعها من بدنها والزينة ليست عليها!
ثانياً: مما يؤكد الخطأ أنه لا يمكن رؤية الخاتم في الإصبع إلا برؤية الكف فثبت أن المقصود في الأثر هو الموضع وليس الزينة نفسها
ثالثاُ: أن ذلك قائم على اللفظ الذي ذكره المعلق: " الكحل والخاتم"
وذلك خطأ منه لأمرين اثنين:
الأول: أنه ضعيف لا يصح حكى ذلك المعلق نفسه في مكان آخر (3/ 431)! والصحيح الثابت عن ابن عباس وغيره إنما هو بلفظ:" الوجه والكفين" كما تقدم قريباً، فالدلالة واضحة جداً.
والآخر: أن المقرون مع ابن عباس في عبارة السرخسي إنما هو ابن عمر أو عائشة- كما رجحته آنفاً -ولفظهما وهو عين اللفظ الصحيح عن ابن عباس كما رأيت وعليه فلا يجوز حمل لفظهما- أو لفظ أحدهما- على لفظ ابن عباس الضعيف عنه كما هو ظاهر لا يخفى على أهل العلم.
وبهذا يسقط الاستظهار المذكور من أصله، ويظهر أن التعليق المذكور لا قيمة له من الناحية العلمية، لأنه قائم على التحويش دون التحقيق والتفتيش! وتمييز الصحيح من الضعيف من الروايات!
وهنا سؤال يطرح نفسه –كما يقولون اليوم -: لماذا آثر الأخ محمد بن إسماعيل اللفظ الضعيف على اللفظ الصحيح؟!
والجواب: من وجوه:
أولاً: لأنه المناسب لكلام البابرتي الحنفي!
ثانياً: لأنه لا يعرف الفرق بين اللفظين رواية، ويعرف الفرق بينهما دراية!
¥