وكأن ذلك المؤلف ومن على شاكلته-من المقلدة كالصابوني والغاووجي وأمثالهم- يتوهمون أن الفتنة كانت مأمونة في تلك القرون، وان الله تبارك وتعالى لم يضع الذرائع والسدود أمامها بما فرض على النساء من الحجاب، وبما أمر به الجنسين من غض البصر، وقال في ذلك: {ذلكم اطهر لقلوبكم وقلوبهن} (الأحزاب: 53)، ويتناسون أن طبيعة البشر واحدة في كل زمان، كما جاء في القرآن: {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين .. } (آل عمران: 14) الآية. وأنهم إنما يتفاوتون بالتقوى واتباع أحكام الله تعالى، ومن ذلك قصة الفضل بن العباس رضي الله عنهما مع الخثعمية الحسناء، وتكرار نظره إليها وهو حاج! وكيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتفي بصرف وجهه عنها، ولا يأمرها بأن تسدل على وجهها، وهذا هو وقت الفتنة بها، وسد الذريعة دونها بزعمهم، ولكنه صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك، فدَّله فعله صلى الله عليه وسلم على بطلان ما ذهبوا إليه من إيجاب الستر كما هو ظاهر، لاتفاق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، ولذلك، فقد أساء أحدهم حين قال- تخلِّصاً من هذه الحجة الظاهرة-:
" لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمرها بعد ذلك"، أي: بتغطية وجهها!
فأقول تبعاً لابن عمر-أو غيره من السلف-: اجعل (لعل) عند ذاك الكوكب، لأن فيه تعطيلاً للسنة التي منها إقراره صلى الله عليه وسلم، ذلك لأنه ما من شيء سكت عنه صلى الله عليه وسلم وأقره إلا ومن الممكن لكل مجادل أن يُبطله بمثل ذلك القول! كمثل حديث ذلك الرجل الذي أحرم بعمرة في جبته بعدما تضمخ بطيب، فأمره صلى الله عليه وسلم بنزع الجبة وغسل الطيب، وهو في " الصحيحين"، فاستدل به العلماء- ومنهم الحنابلة- على أنه لا فدية عليه، قال ابن قدامة في " المغني" (3/ 262):
" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر الرجل بفدية".
فهل يقول المشار إليه هنا كما قال هناك:
" لعل النبي صلى الله عليه وسلم أمره بعد ذلك"؟!
أم هو الكيل بمكيالين، والوزن بميزان؟! والله المستعان.
واعلم أيها القارئ! لأن الأحاديث التي أخذ منها العلماء-على اختلاف مذاهبهم-كثيراً من الأحكام من إقراره صلى الله عليه وسلم أكثر من أن تحصر، ولو أن باحثاً توجه لجمعها في كتاب، تكلم عليها رواية ودراية، لكان من ذلك مجلد أو أكثر.
ومن هنا تظهر خطورة هذا الترجي الذي لا يحمل عليه إلا التقليد والدفاع عن المذاهب والرأي، ومن ذلك قصة الصحابي الجليل معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه الذي حفظ لنا قول النبي صلى الله عليه وسلم للجارية: " أين الله؟ وجوابها:" في السماء"، وشهادته صلى الله عليه وسلم فيها:" إنها مؤمنة "، فقد كان رضي الله عنه يصلي وراءه صلى الله عليه وسلم يوماً-وهو حديث عهد الإسلام – فنادى:" واثكل أمّياه! ما شأنكم تنظرون إلي؟! ". إلى آخر قصة في " صحيح مسلم" وغيره، وهو مخرج في "الإرواء" (2/ 111/390)، واستدل به العلماء ومنهم الشافعية:" إن كلام الجاهل في الصلاة لا يبطلها"، على تفصيل في ذلك عندهم، قال النووي في "شرح مسلم":
" لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمره بإعادة الصلاة".
ونحوه قال ابن تيمية في "الفتاوى" (20/ 366و22/ 624).
وإنما قلت آنفاً:" وهذا هو وقت الفتنة…"، لقول العباس رضي الله عنه –كما في حديث علي في الكتاب (ص28 - الطبعة السابعة) -:
"يا رسول الله! لِمَ لويت عنق ابن عمك؟ ". فقال صلى الله عليه وسلم:
"رأيت شاباً وشابة فلم آمن الشيطان عليهما".
فهذا صريح في أنه صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك مخالفة الفتنة، كما قال الشوكاني في " نيل الأوطار" (6/ 97)، فمن فعل في مثل هذه الحالة خلاف فعل النبي صلى الله عليه وسلم، فقد خالف هديه صلى الله عليه وسلم، وتعرض لوعيد قوله تعالى: {فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (النور:63)، وقوله صلى الله عليه وسلم:" …ومن رغب عن سنتي فليس مني" متفق عليه. فكيف به إذا جعل مخالفته قاعدة مستمرة إلى ما شاء الله؟!
ثم قال الشوكاني رحمه الله:
" وقد استنبط منه ابن القطان جواز النظر عند أمن الفتنة، حيث لم يأمرها بتغطية وجهها، فلو لم يفهم العباس أن النظر جائز ما سأل، ولو لم يكن ما فهمه جائزاً ما أقره عليه ".
¥