والذمة: الأمان والعهد، فعقد الذمة أي عقد الأمان الذي تمنحه الدولة لأهل ذمتها، وتتعهد بمقتضاه بحمايتهم وتأمينهم، وبه أحكام تفصيلية كثيرة، لكن أظهر ما فيه وأجمعه هو: قبول الكفار بجريان أحكام المسلمين عليهم في الشأن العام، مع التزام دفع الجزية، التي هي مبلغ مالي مُقدر من قبل الدولة، يعبر عن قبولهم بعقد الذمة والتزامهم به وخضوعهم لأحكامه، وفي مقابل ذلك يأمن الذميون على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لا يُقرب شيء من ذلك إلا بالحق الذي بينه الله تعالى قال الله تعالى: قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون".
معاملة المسلمين لأهل الذمة:
ولقد عُومل أهل الكتاب على مدار التاريخ الإسلامي معاملة عادلة من المسلمين، لا وكس فيها ولا شطط، شهد بذلك مؤرخوهم ومفكروهم، فهذا عمر رضي الله تعالى عنه وهو على فراش الموت، يقول قولته المشهورة وهو يوصي من يتولى أمور المسلمين بعده: "وأوصيه بذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يُوفَى لهم بعهدهم، وأن يُقاتل مِن ورائهم، ولا يكلفوا إلا طاقتهم"، فهم ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، يجب الوفاء بما عوهدوا عليه، وأن لا يُنتقص منه شيء، وأن يُدافع عنهم ضد أي اعتداء، وأن لا يكلفوا من الأعمال فوق طاقتهم، وقد ذكر أبو يوسف في كتاب الخراج أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى رجلا كبيرا يسأل الناس فلما علم أنه من أهل الذمة وأنه يسأل من أجل الفقر الذي به، ولكي يدفع الجزية المطلوبة منه، وضع عنه عمر الجزية، وأعطاه شيئا من عنده، وقال: ما أنصفناه إن أخذنا منه وقت شبابه وقوته على الكسب، ثم نتخلى عنه عند ضعفه وعدم قدرته على التكسب.
وانظر موقف ابن تيمية رحمه الله تعالى عندما ذهب لملك التتر يفاوضه على الإفراج عن الأسرى فأعطاه ملك التتر الأسرى من المسلمين، فأبي الشيخ إلا أن يفرج عن أهل الذمة أيضا؛ لأنهم ذمة المسلمين، واستنقاذهم من بين يدي الأعداء واجب المسلمين.
قال ابن الأزرق فيما نقله عن القرافي: "وقد حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له، أن من كان في الذمة، وقصده العدو في بلادنا، وجب الخروج لقتالهم، حتى نموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن تسليمه إهمال لعقد تلك الذمة انتهى ملخصا "، وعقد الذمة عقد مؤبد ويكتسب قوته من أمر الله تعالى للمسلمين بالوفاء بالعقود، قال الله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود".
ولا تعني المعاملة العادلة أن يعطى أهل الذمة ما لم تعطه لهم النصوص الشرعية، فإن ذلك وإن كان فيه تفضل عليهم بما ليس لهم، لكنه من الناحية الثانية فيه ظلم للمسلمين بإعطاء بعض من حقوقهم لغيرهم، ومن ذلك الولايات السياسية، وهو موضوع الفقرة التالية.
الولايات السياسية:
لولاية أمر المسلمين من حيث العموم والخصوص أربع صور:
الصورة الأولى: من يكون عام الولاية عام العمل كالخليفة والملك والسلطان والرئيس فولايته عامة تشمل الرقعة الإسلامية كلها، ونظره وعمله في الأمور جميعها.
والصورة الثَّانِية: من يكون خاص الولاية عام العمل، كولاة الْأَقَالِيمِ وَأمراء الْبُلْدَانِ، فولايته محدودة بحدود إقليمه، ونظره عام في كل أمره
وَالْصورة الثالثةُ: من يكون عام الولاية خاص العمل، كالقائد الأعلى للجيش، وكرئيس القضاة الأعلى، وَحَامِي الثُّغُورِ وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ وَجَابِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ تعم ولايته الرقعة الإسلامية كلها، ولكنها خاصة في عمل معين
وَالصورة الرَّابِعُة: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْخَاصَّةِ، وَهُمْ كَقَاضِي بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ أَوْ جَابِي صَدَقَاتِهِ، أَوْ حَامِي ثَغْرِهِ أَوْ نَقِيبِ جُنْدٍ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ ولايته خاصة برقعة محدودة، ونظره محدد بعمل مَخْصُوصُ، وكل هذه الأمور فيها عز النفس وعلو اليد، واطلاع على أسرار المسلمين ودواخل أمورهم، فلذا لا يجوز أن يتولاها غير المسلمين الأمناء على دينهم وديارهم.
¥