قيل قد أجاب عن هذا الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" فقال: لا حجة فيه لأنه لا يلزم من جواز الاتخاذ جواز اللبس فيحتمل أنه أراد وجوده لتنتفع المرأة بقيمته.
قلت: ويمكن الجمع بين ما في حديث سهل وما في حديث بريدة وما بعده من الأحاديث بأن يحمل المنع على ما كان حديدًا صرفًا.
ويحمل الجواز على ما لويت عليه فضة فقد روى أبو داود والنسائي في سننيهما والبخاري في تاريخه عن إياس بن الحارث بن المعيقيب عن جده معيقيب رضي الله عنه قال كان خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم - من حديد ملويّ عليه فضة، قال: فربما كان في يدي قال: وكان المعيقيب على خاتم النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وعلى هذا فيحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر الخاطب بالتماس خاتم مما يجوز لبسه وهو ما لويت عليه فضة وسماه حديدًا اعتبارًا بأصله.
ويحتمل أنه أمره بالتماس خاتم من حديد صرف لأن المرأة يمكنها لبسه بعد ما يلوى عليه ذهب أو فضة وبهذا تجتمع الأحاديث وينتفي عنها التعارض والله أعلم.
ويحتمل أن يكون ما في حديث سهل وحديث معيقيب منسوخا بحديث بريدة وما بعده من الأحاديث الدالة على المنع من لبس الحديد بالكلية. وهذا الاحتمال أقوى مما قبله وقد أومأ إليه الإمام أحمد رحمه الله تعالى في رواية أبي طالب فقال: كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة فرمى به فلا يصلى في الحديد والصفر.
قلت المعروف من ورع الإمام أحمد رحمه الله تعالى وشدة تثبته أنه لا يقول مثل هذا إلا عن أثر ثابت عنده.
وعلى هذا فيكون طرح النبي - صلى الله عليه وسلم - لخاتم الحديد الذي عليه فضة
كطرحه لخاتم الذهب سواء فكل منهما يدل طرحه على المنع منه ونسخ ما تقدم من جواز لبسه.
ويؤخذ منه المنع من لبس الحديد الصرف بطريق الأولى والأحرى. وقد يستدل لما ذكره الإمام أحمد رحمه الله تعالى بالحديث الذي رواه الزهري عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه رأى في يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتما من ورق يوما واحدا ثم إن الناس اصطنعوا الخواتيم من ورق ولبسوها فطرح رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاتمه فطرح الناس خواتيمهم رواه الإمام أحمد والشيخان وأبو داود والنسائي.
وقد قيل: إن الزهري وهم في هذا الحديث من خاتم الذهب إلى خاتم الورق.
وقال آخرون: لا وهم يفه وتأولوه. ومسلك التأويل في هذا أولى من مسلك التوهيم ولاسيما في حق الزهري وأمثاله من أكابر الأئمة المعروفين بمزيد الحفظ والإتقان. والأقرب في هذا أن يحمل ما رواه الزهري على ما ذكره الإمام أحمد في رواية أبي طالب أنه كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاتم من حديد عليه فضة فرمى به. وأخبار أنس رضي الله عنه عن الخاتم المطروح بأنه من ورق لا ينفي أن يكون باطنه حديدًا وتكون الفضة ملوية عليه كما في حديث معيقيب رضي الله عنه فلعل أنسًا رضي الله عنه سماه ورقا اعتبارا بظاهره والله أعلم.
وقد قال ابن هانئ: سألت أبا عبد الله -يعني أحمد بن حنبل- عن خاتم الحديد فقال: لا نلبسه.
وقال الإمام أحمد في رواية مهنا: أكره خاتم الحديد لأنه حلية أهل
النار. وسأله الأثرم عن خاتم الحديد ما ترى فيه؟ فذكر حديث عمرو بن شعيب أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لرجل: "هذه حلية أهل النار". وابن مسعود رضي الله عنه قال: لبسة أهل النار. وابن عمر رضي الله عنهما قال: "ما طهرت كف فيها خاتم من حديد" وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: في حديث بريدة رضي الله عنه لرجل للبس خاتما من صفر: "أجد منك ريح الأصنام" فما اتخذ يا رسول الله؟ قال: "فضة" انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ونص أيضا في رواية إسحاق وجماعة على كراهة خاتم حديد وصفر ونحاس ورصاص للرجل والمرأة فيحتمل أنه أراد كراهة التنزيه ويحتمل أنه أراد كراهة التحريم وهو أظهر لما تفيده التعاليل التي ذكرها في رواية مهنا والأثرم.
ويستفاد ذلك أيضا من نصه في رواية أبي طالب على أنه لا يصلى في الحديد والصفر ولو كانت الكراهة فيهما للتنزيه لم يمنع من الصلاة فيهما والله أعلم.
وقد ذكر شيخ الإسلام أبو العباس ابن تيمية رحمه الله تعالى عن محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة أنه قال في "الجامع الصغير": ولا يتختم إلا بالفضة.
¥