قالوا: يا رسول الله، المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من
أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وصيام، وقد شتم هذا، وضرب هذا، وأخذ مال
هذا، فيأخذ هذا من حسناته، وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه
أخذ من سيئاتهم فطرح عليه ثم طرح في النار).
وعن عقبة بن عامر رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقول: (لا يدخل الجنة صاحب مكس).
قال البغوي: يريد بصاحب المكس الذي يأخذ من التجار إذا مروا
عليه مكسا باسم العشر. أي الزكاة.
قال الحافظ المنذري: أما الآن فإنهم يأخذون مكسا باسم العشر،
ومكسا آخر ليس له اسم، بل شيء يأخذونه حراما وسحتا، ويأكلونه في بطونهم نارا ,
حجتهم فيه داحضة عند ربهم، وعليهم غضب، ولهم عذاب شديد. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "السياسة الشرعية": ص
115:
(وأما من كان لا يقطع الطريق , ولكنه يأخذ خَفَارة (أي: يأخذ
مالاً مقابل الحماية) أو ضريبة من أبناء السبيل على الرؤوس والدواب والأحمال ونحو
ذلك , فهذا مَكَّاس , عليه عقوبة المكاسين. . . وليس هو من قُطَّاع الطريق , فإن
الطريق لا ينقطع به , مع أنه أشد الناس عذابا يوم القيامة , حتى قال النبي صلى الله
عليه وسلم في الغامدية: " لقد تابت توبة لو تابها صاحب مكس لغفر له ") اهـ.
وقد سئلت اللجنة الدائمة للإفتاء عن العمل في البنوك الربوية أو
العمل بمصلحة الجمارك أو العمل بمصلحة الضرائب، وأن العمل في الجمارك يقوم على فحص
البضائع المباحة والمحرمة كالخمور والتبغ، وتحديد الرسوم الجمركية عليها.
فأجابت: إذا كان العمل بمصلحة الضرائب على الصفة التي ذكرت فهو
محرم أيضا؛ لما فيه من الظلم والاعتساف، ولما فيه من إقرار المحرمات وجباية
الضرائب عليها) اهـ.
"فتاوى اللجنة الدائمة" (15/ 64).
ومن هذا يتبين أن أخذ هذه الرسوم والضرائب، أو كتابتها والإعانة
عليها، محرم تحريما شديداً.
ثانياً:
نظراً لأن هذا الظلم واقع على المسلمين، وامتناعك من العمل فيه
لن يرفعه، فالذي ينبغي في مثل هذه الحال - إذا لم نستطع إزالة المنكر بالكلية - أن
نسعى إلى تقليله ما أمكن.
فإذا كنت تعمل في هذا العمل بقصد رفع الظلم وتخفيفه عن المسلمين
بقدر استطاعتك، فأنت في ذلك محسن، أما من دخل في هذا العمل بقصد الراتب، أو
الوظيفة , أو تطبيق القانون، ونحو ذلك فإنه يكون من الظلمة، ومن أصحاب المكس،
ولن يأخذ من أحد شيئاً ظلماً إلا أُخِذَ بقدره من حسناته يوم القيامة. نسأل الله
السلامة والعافية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "مجموع الفتاوى"
(28/ 284):
"وَلا يَحِلُّ لِلرَّجُلِ أَنْ يَكُونَ عَوْنًا عَلَى ظُلْمٍ ;
فَإِنَّ التَّعَاوُنَ نَوْعَانِ:
الأَوَّلُ: تَعَاوُنٌ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى مِنْ
الْجِهَادِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَإِعْطَاءِ
الْمُسْتَحَقِّينَ ; فَهَذَا مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. . . .
وَالثَّانِي: تَعَاوُنٌ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ،
كَالإِعَانَةِ عَلَى دَمٍ مَعْصُومٍ، أَوْ أَخْذِ مَالٍ مَعْصُومٍ، أَوْ ضَرْبِ
مَنْ لا يَسْتَحِقُّ الضَّرْبَ، وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَهَذَا الَّذِي حَرَّمَهُ
اللَّهُ وَرَسُولُهُ. . .
ومَدَارَ الشَّرِيعَةِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (فَاتَّقُوا
اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ; وَعَلَى قَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:
(إذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرِ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ) أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ.
وَعَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ تَحْصِيلُ الْمَصَالِحِ وَتَكْمِيلُهَا
; وَتَعْطِيلُ الْمَفَاسِدِ وَتَقْلِيلُهَا. فَإِذَا تَعَارَضَتْ كَانَ تَحْصِيلُ
أَعْظَمِ الْمَصْلَحَتَيْنِ بِتَفْوِيتِ أَدْنَاهُمَا، وَدَفْعُ أَعْظَمِ
الْمَفْسَدَتَيْنِ مَعَ احْتِمَالِ أَدْنَاهَا: هُوَ الْمَشْرُوعُ.
وَالْمُعِينُ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مَنْ أَعَانَ
الظَّالِمَ عَلَى ظُلْمِهِ، أَمَّا مَنْ أَعَانَ الْمَظْلُومَ عَلَى تَخْفِيفِ
الظُّلْمِ عَنْهُ أَوْ عَلَى أَدَاءِ الْمَظْلِمَةِ: فَهُوَ وَكِيلُ الْمَظْلُومِ
; لا وَكِيلُ الظَّالِمِ ; بِمَنْزِلَةِ الَّذِي يُقْرِضُهُ، أَوْ الَّذِي
يَتَوَكَّلُ فِي حَمْلِ الْمَالِ لَهُ إلَى الظَّالِمِ.
مِثَالُ ذَلِكَ: وَلِيُّ الْيَتِيمِ وَالْوَقْفِ إذَا طَلَبَ
ظَالِمٌ مِنْهُ مَالا فَاجْتَهَدَ فِي دَفْعِ ذَلِكَ بِمَالِ أَقَلَّ مِنْهُ
إلَيْهِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ بَعْدَ الاجْتِهَادِ التَّامِّ فِي الدَّفْعِ؛ فَهُوَ
مُحْسِنٌ، وَمَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ. . .
كَذَلِكَ لَوْ وُضِعَتْ مَظْلِمَةٌ عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ أَوْ
دَرْبٍ أَوْ سُوقٍ أَوْ مَدِينَةٍ فَتَوَسَّطَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مُحْسِنٌ فِي
الدَّفْعِ عَنْهُمْ بِغَايَةِ الإِمْكَانِ، وَقَسَّطَهَا بَيْنَهُمْ عَلَى قَدْرِ
طَاقَتِهِمْ مِنْ غَيْرِ مُحَابَاةٍ لِنَفْسِهِ، وَلا لِغَيْرِهِ، وَلا
ارْتِشَاءٍ، بَلْ تَوَكَّلَ لَهُمْ فِي الدَّفْعِ عَنْهُمْ وَالإِعْطَاءِ: كَانَ
مُحْسِنًا ; لَكِنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ يَكُونُ وَكِيلُ
الظَّالِمِينَ مُحَابِيًا مُرْتَشِيًا مَخْفَرًا لِمَنْ يُرِيدُ (أي يدافع عنه)
وَآخِذًا مِمَّنْ يُرِيدُ. وَهَذَا مِنْ أَكْبَرِ الظَّلَمَةِ الَّذِينَ
يُحْشَرُونَ فِي تَوَابِيتَ مِنْ نَارٍ هُمْ وَأَعْوَانُهُمْ وَأَشْبَاهُهُمْ ثُمَّ
يُقْذَفُونَ فِي النَّارِ" اهـ.
والله أعلم.
¥